السبت، 21 فبراير 2009

أدب الرسائل البريدية ..


<ن والقلم وما يسطرون> ، <اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم> آيتان من كتاب الله الأولي صدر سورة القلم والثانية من سورة العلق تشيران إلى أهمية القلم والكتابة، فيروي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: إن أول ما خلق الله خلق القلم، فقال له: أكتب، قال: يا رب وما أكتب ؟ قال: أكتب القدر فجري القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد... فالله أقسم بالقلم لإيضاح ما أنعم به على خلقه من فضل ، وعلمه الكتابة التي لولاها ما دونت العلوم ولا عرف أخبار الأولين ومقالاتهم ولا حفظ إنتاج الإنسان الفكري ولا ميراثه الثقافي والعلمي من الاندثار .
.
فالكتابة وقف من الله تعالي، علمها آدم عليه السلام ومنحها للإنسان، فعرفها الإنسان وتعلمها واهتدي بها كلغة يتعايش بها مع غيره من بني البشر... فقبل 5000 عام قبل الميلاد ابتدع الإنسان في بلاد الرافدين الكتابة على الألواح الطينية والحجرية بما عرف باللغة المسمارية، حيث استخدمها السومريون للتعبير بها عن لغاتهم السومرية القديمة، وكانت ملائمة ومتوافقة لكتابة اللغة الاكادية والأشورية التي كان يستعملها البابليون والآشوريون، وظهرت كذلك اللغة الهيروغليفية لأول مرة في مصر القديمة مستخدمة الرموز والصور المستوحاه من الطبيعة ككتابة متداولة على المقابر والتماثيل والألواح الحجرية... ثم ما لبث أن ظهرت الأبجديات المكتوبة ببعض الحضارات القديمة كالأبجدية الفينيقية والأبجدية الإبيلاوية ببلاد الشام.
.
أما العرب فلم يعرفوا الكتابة إلا حين كان لهم اتصال بالمدنية، وذلك نتيجة هجرتهم من قلب الجزيرة العربية إلى إطرافها المتحضرة، وفي هذه البقاع خرج العرب عن طبيعتهم البدوية وسلكوا سبل الحضر في العيش ومظاهر العمران، حيث نشأت الكتابة أول ما نشأت بمدينة البتراء عاصمة مملكة النبط، حيث ابتدعوها بأنفسهم اشتقاقاً من الكتابة الآرامية أو النبطية، والتي كانت تتألف من 22 حرفاً هجائياً صامتاً، والتي سرعان ما تعلمها الأعراب النازحون من أقصي شمال الجزيرة حتى حضرموت اليمن... ثم مرت هذه الكتابة بمراحل عديدة حتى تحولت من صورتها النمطية الخالصة إلى صورتها المعروفة الآن، وذلك بإدخال ستة أحرف عرفت بحروف الروافد وهي ث خ ن ض ظ غ، فصارت أبجديتهم 28 حرفاً زادت من إثراء اللغة العربية بقيمتها الشكلية والصوتية، ثم ما لبثت أن تم ترتيب الحروف الأبجدية على النحو المعروف، وذلك بجمع الحروف المتشابهة في الرسم مع بعضها، على يد نصر بن عاصم الليثي المتوفى عام 89 هجرية، ويحيي بن يعمر الوسقي العدواني المتوفى عام 129 هجرية.
.
وظلت الكتابة العربية على حالة من البداوة الشديدة ولم يكن لدي العرب من أسباب الاستقرار ما يدعو إلى الابتكار والتجديد إلا عندما أصبحت لهم دولة فيها مراكز ثقافية تنافس بعضها البعض على نحو ما حدث بالكوفة والبصرة والشام ومصر، حيث فرغ العرب بعد أن فتح الله عليهم البلاد أثناء العصر الأموي للابتكار والإبداع، فظهرت الكتابات على الآنية والتحف وأعتني بكتابة المصاحف، ثم ما لبث أن ترسخت الكتابة في العصر العباسي وازدهرت الكتابات وتنوعت أشكالها ومقاصدها، وظهرت الأدبيات من شعر ونثر وقصص وغيرها من ألوان الأدب العربي .
.
وأدب الرسائل شكل رافداً مهماً في تراثنا الأدبي، ويعد من أقدم الأنواع الأدبية النثرية وأعرقها عند الأمم القديمة والحديثة على السواء، ولعب بما احتوي من أفكار ورؤى ومشاعر وجدانية دوراً مؤثراً في الكشف عن جوانب مهمشة وخفية في تراثنا العربي، كما عرفه الأدب العربي لوناً فنياً بديعاً يتضمن خواطر وأفكار، فالرسالة الأدبية تتوج بأدوات فنية لفظياً وإيقاعياً وصورياً تشد الانتباه وتوجه العقل وتحرك المشاعر... أن أدب الرسائل له نكهة خاصة متميزة يبوح فيها المرء عن مكنونات القلب بعفوية وبساطة، دون تحفظ أو مواربة .
.
ويجب أن نذكر أن تلك الرسائل صنفت على أشكال ثلاثة، فالأول: عرف بالرسائل الديوانية التي تتم بين مختلف دوائر الدولة أو بين الدول المختلفة، وأشهرها رسائل الرسول صلي الله عليه وسلم إلى ملوك زمانه التي دعاهم فيها إلى الإسلام، حيث كانت رسائل صريحة وموجزة خالية من فضول الكلام، والثاني: الرسائل الأخوانية، والتي يكتبها الأدباء والمحبين والعشاق وأشهرها رسائل بديع الزمان الهمذاني بمقاماته المعروفة، ورسائل العشاق لابن حزم الأندلسي في طوق الحمامة، والثالثة الرسائل العلمية والفكرية كالرسالة التدميرية لأبن تيمية.
.
والآن لماذا أختفي أدب الرسائل من حياتنا الأدبية ؟!.. لماذا أصبحت الرسائل الأدبية البريدية مهمشة ؟!.. الإجابة الظاهرة ترجع هذا الانحسار إلى التطور في سرعة الاتصال، فقد حل الهاتف والفاكس والكمبيوتر والانترنت محل الرسائل البريدية بأسلوبها القديم، وأضحي من السهل تبادل الكلمات والرسائل القصيرة دون عناء أو مشقة، أما باطنها فهو ضعف اللغة العربيـة والكتـابة بوجـه عـام، والوتيرة السريعة لحيـاتنا اليومـية التي تخطـف الرؤية والتأمـل، فلم يعـد يتـاح للمرء أن يجلس ويكتب كمـا كان يفعـل القدمـاء، كمـا أن واقعنـا الثقافـي والأدبي أصبح أكثراً ركـوداً من اقتصـادنا وسط ما يحيط المبدعين والكتـاب من ضغـوط وضروريات الحياة.
.
فالتقدم التكنولوجي بات نقمة، فقدنا معه الشعور بالعواطف وما يجيش به الصدر من كلمات بين السطور ومشاعر فياضة تدمع لها العين فرحاً وحزناً ... فالرسائل البريدية التي كانت طريقة للتواصل مع الأهل والأصدقاء، وذات رونق خاص في التعبير عن المحبة والاشتياق بما فيها من خطوط ورسم للحروف والكلمات، يتعايش معها القارئ بتواصل وجداني وأدبي مع مرسلها، وربما يعود لقراءتها مرات ومرات لتؤنس وحدته وتخفف عنه عزائه وحنينه، أصبحت الآن كشيء مضي، نحدث عنه أبنائنا وأحفادنا الذين سيسألون بدهشة واستغراب عن ماهية الرسائل البريدية !!..
.
وللحديث بقية ...
ashraf_mojahed63@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: