الجمعة، 20 فبراير 2009

التاريخ البريدي ..


التاريخ هو الأب الشرعي لكافة العلوم الإنسانية، وواحد من أقدم المجالات التي شغلت العقل الإنساني، فالتاريخ يمكن وصفه بأنه التعبير عن الاهتمام الإنساني بالماضي البشري واهتمام كل جماعة إنسانية بماضيها سواء كان يجمعها مجتمع واحد أو دولة واحدة أو لا يجمعها… يبحث عن ماضيها، كيف ولماذا نشأت ؟ وكيف تطورت وعاشت وأنتجت ثقافتها وحاجاتها المادية والمعنوية ؟ وكيف كانت علاقاتها بالآخرين وحراكها الداخلي بين أفراد مجتمعها وأجيالها وطبقاتها ؟ … ومن الطبيعي اختلاف هذا الوصف باختلاف الأزمنة وتغير نظرة البشر إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية لمجتمعاتهم.
.
ويقول مؤرخو علم التاريخ أنه بدأ على يد المؤرخ الرحالة اليوناني القديم هيرودتس وخليفته ثيوسيديديس في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، فالأول كتب عن الحروب الإغريقية والفرس وكتب الثاني عن الحروب الأهلية بين المدن الإغريقية، ومن المحقق أنهما كانا يستوحيان كتابتهما من سجلات ورسومات وما كتب على جدران المعابد والمقابر… وفي مصر وبلاد الرافدين وفارس والهند كان التاريخ يمثل مرحلة من تطور الاهتمام الإنساني ذاته بتسجيل الماضي والإشادة بالذات الجماعية للقبيلة أو للأمة والمتمثلة في أبطال وملوك وقادة تلك الأمة في صورة الملاحم أو الأساطير والحكايات الشعبية القديمة مثل أسطورة حورس في مصر أو أنشودة جلجامش في بلاد الرافدين أو حكايات الهجرة والمعارك التي شهدها حوض السند والتي أدمجت في الجيتا الهندية… كل هذه السجلات المحفورة أو المكتوبة أو الشفهية كانت بلا شك الجذور الأولي لعلم كتابة التاريخ.
.
وإذا كان اليونانيون أول من بدأ علم التاريخ، فالعرب الأمويين أول من وضعوا أصوله وقواعده، وذلك خلال تأسيس علم الحديث الشريف حيث تطلب التحقق من صحة الحديث التحقق من سلامة إيمان الرواة بما يعرف بعلم الجرح والتعديل، والتحقق من صحة الواقعة التي قيل الحديث بشأنها… وكان لكتابة السيرة النبوية والحديث الشريف دوراً كبيراً في تأسيس علم التاريخ ومناهجه التي قامت على المقارنة والفحص أو النقد العقلي للمصادر والرواة والأزمنة… ويعتبر عبد الرحمن بن خلدون صاحب مقدمة ابن خلدون أول من سعي إلى تطوير منظور وضعي لفهم التاريخ مستفيداً بما حققه الفكر الإسلامي عامة في محاولة فهمه للظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية… وفي العصر الحديث بدأ تطور علم التاريخ في القرن السادس عشر منذ كتب جيبون تاريخ روما، والفليسوف ديفيد هيوم تاريخ إنجلترا… ولكن التاريخ ظل محتضناً بالأدب لا ينفك عنه يسعى إلى السرد المسلي للأحداث الكبرى، كما يسعى لاستخلاص العبر الأخلاقية والتوجيه السياسي لتجنب أخطاء الماضي، حتى أضحي الآن ذا تكريس ثقافي للأمم للحفاظ على الهوية القومية.
.
والتاريخ البريدي جزء من هذا التاريخ، فالبريد أرتبط دائماً بالتجمعات البشرية منذ عرف الإنسان الاتصال ببني جنسه، مرتبط بالمدنية ومعانق للحضارات أينما وجدت… فنجد في مصر أول وثيقة جاء بها ذكر للبريد يرجع تاريخها إلى عهد الأسرة الثانية عشر قبل 2000 سنة قبل الميلاد وهي وصية كاتب لولده يطلعه فيها على أهمية صناعة الكتابة والمستقبل الذي ينتظر الكاتب في وظائف الحكومة، ويتحدث فيها عن بؤس أصحاب الحرف والصناعات الأخرى، فقد قال هذا الكاتب ضمن ما قال: أما ساعي البريد فأنه يحمل أثقالا فادحة، ويكتب وصيته قبل أن ينطلق في مهمته توقعاً لما قد يصيبه من الوحوش والأسيويين، ولعل أقدم وأهم مجموعة تدل على أن الفراعنة كان لديهم نظاماً للبريد، مجموعة رسائل تل العمارنة المكتوبة بالخط المسماري وهي عبارة عن سجل للمراسلات السياسية نقلها أمينوفيس الرابع سنة 1364 قبل الميلاد من طيبة إلى تل العمارنة، وقد تبودلت العديد من الرسائل بين أمينوفيس الثالث والرابع فيما بين عام 1405 و1352 قبل الميلاد وبين ملوك الحيثيين وأشور وبابل وقبرص وصقلية… وفي وادي الرافدين تم العثور على رقع طينية سومرية وبابلية تشير إلى وجود رسائل تحمل أختاما مدون عليها بريد مستعجل، كما كانوا يستخدمون الدواب في نقل تلك الرقع من مدينة لأخرى… وفي الصين كان البريد في عهد أسرة تشو فيما بين 1122 و222 قبل الميلاد يستخدم لمقتضيات البلاط الإمبراطوري وكان تحت تصرف إدارة تلك الخدمة نحو 80 رسولاً موزعين على المحاور الكبرى للبلاد ، وفي حكم تانج فيما بين 905 و618 قبل الميلاد كانت تستخدم عربات للبريد عرفت باسم البريد الطائر حيث كانت تقطع نحو 250 كيلومتر في اليوم الواحد… وفي بلاد فارس يبدو أنهم أول من استخدم الفرسان لتبليغ الأنباء، فكان قيروس الأكبر فيما بين 558 و528 قبل الميلاد يريد أن يكون على اتصال مستمر مع حكام الأقاليم فحسب بنفسه المسافات التي يستطيع أي فارس أن يقطعها في اليوم الواحد وأمر بإنشاء مرابط للخيول يبعد الواحد منها عن الآخر مسافة يوم سفر… وفي اليونان القديمة ومع اتساع الإمبراطورية الرومانية تطلب تنظيم تبليغ الأنباء وملاءمته الدائمة قبل كل شئ لمقتضيات الدولة الرومانية فأنشئت محطات عديدة على طول الطرق وعلى مسافات محددة حيث كان رسل البريد يتناوبون بتلك المحطات، وكان رسائل الرومان تصنع من لوحات من خشب مجوفة قليلا في أحد أوجهها وتغطي بالشمع ويكتب عليها بمرود من العظم أو المعدن.
.
وهكذا كتب البريد تاريخه منذ العصور القديمة متأثراً بالحضارات وبزوغ نجم الإمبراطوريات قديماً وحديثاً، حتى صار هو ذاته مدوناً للتاريخ، يروي له ويسجل إحداثه من خلال طوابعه ونوادره… وهذا ما لمحه القائمون على مكتبة الإسكندرية مؤخراً، فمن خلال موسوعة ذاكرة مصر تم الإشارة إلى نحو 400 طابع مصري دون من خلالها تاريخ البريد الحديث في مصر وتطوره على يد محمد علي باشا حتى انتقاله إلى بدء استخدام الطائرات في نقل البريد المصري عام 1932، وهو ما يعرف بالعصر الذهبي للبريد المصري حيث تم انتقال ملكيته من الأجانب إلى الحكومة المصرية ونقل مقره الرئيسي من الإسكندرية إلى القاهرة، كما تم عقد المؤتمر العاشر للاتحاد البريد العالمي بالقاهرة عام 1934، وافتتح أول متحف للبريد يذخر بالعديد من القطع الآثرية والطوابع النادرة، وهو جهد مشكور للقائمين على مكتبة الإسكندرية… بيد أن ماينقصنا استكمال هذا التاريخ، تاريخ طويل منذ نشأة البريد وتطوره في مصر على يد سلاطين الدولة الإيوبية مروراً بنشأة البريد حديثاً علي يد محمد علي واستكمالا لتاريخ البريد حتى يومنا هذا… فمنذ قيام ثورة يوليو 1952 ولم نشعر أن هناك بريداً يدون له رغم آلاف الطوابع والنوادر والحكايات التي لا تؤرخ البريد وحده ولكن تؤرخ لحياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية …
.
وللاستفادة يرجي تصفح موضوعي تاريخ البريد الجوي المصري وتاريخ البريد في العصر النبوي بتلك المدونة ...
.
وللحديث بقية …
ashraf_mojahed63@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: