الأحد، 4 أكتوبر 2009

ابن الارندلي البريدي !!..


في كل عام من شهر رمضان المبارك يتجلي علينا الفنان المبدع يحيي الفخراني بفكرة جديدة، وحكاية شيقة بثوب كوميدي وبواقعية إنسانية تظل محل جدل ونقاش سواء بين المثقفين أو العوام من الناس... فالعام الماضي قدم شرف فتح الباب باخلاقياته المثالية وبأبوته الحانية والتي اضطرته الظروف القاسية وضغوط خصخصة شركات القطاع العام وبيعها أن يستحل المال العام عن جهل بالقوانين وبالتفسيرات والتأويلات الخاطئة لمعالم الدين وتشريعاته... واستلهمتني القصة بمقارنتها بواقعة حقيقية حدثت بالبريد المصري عام 1994 فكتبت شرف فتح الباب البريدي بتلك المدونة المتواضعة خلال شهر سبتمبر من العام الماضي .
.
أما هذا العام، فالقصة مختلفة والفكرة واقعية وتحدث بكثرة حتى نستطيع أن نجزم أننا في زمن أولاد الارندلي وليس ابن الارندلي... ويقال أن لفظ الارندلي يطلق على الشخص المحير الفهلوي الحلنجي، ذا القدرة على إقناع الآخرين بما يريد، وقيل أنها كلمة مصدرها جماعة من الناس أطلق عليهم القرندلية وهم فاقدوا المروءة، كما جاء في كتاب المروءة وخوارمها للشيخ أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، ص 248، وهناك من يشير بأن لها أصل تاريخي من فرقة صوفية تسمي الارندلية كانت تخفي باطنها عن ظاهرها... والتفسير الأول أوفي لما قدمه الفنان يحيي الفخراني ببراعة، فهو يجسد شخصية المحامي، رجل القانون الذي يعرف مداخله ومخارجه، نصوصه وتأويلاته، مخابئه ودهاليزه، ومن خلال فاكهة طريفة لاسترجاع ما يعتقد أنه حقه الشرعي من أرث عمه مستغلا معرفته بالقانون وحيلته وذكائه بغية تحقيق مراده.

فابن الارندلي قد يكون محامياً كما جاء بالمسلسل وقد يكون طبيباً أو مهندساً أو محاسباً، فهو رجل يمارس حياته العملية بمعرفة القانون ولوائحه، وما ينفك أن يطوع هذا القانون وتأويلاته لرغباته ومساعيه المشروعة والغير مشروعة... هذه الحالة كثرت في هذا الزمان، فنحن عباقرة في سن القوانين واللوائح، وأيضاً عباقرة في الالتفاف حول نصوصها وخرق كل ما هو قانوني... ومع فارق الشبه بين ما أرويه عن ابن الارندلي البريدي وبين ابن الارندلي بالمسلسل الفكاهي، إلا أنني أجد تشابهاً عميقاً في شخصية كل منهما، في هواية ممارسة الالتفاف حول القانون ونصوصه وتأويله وتفسيره بما يخدم الأهواء، دون النظر للمثل والقيم والأخلاق، ودون مراعاة لحقوق الغير أو المال العام.

ففي خلال النصف الثاني من التسعينات، وللظروف الاقتصادية العامة وتخفيضاً للانفاق الحكومي فقد أصدر السيد رئيس الوزراء المصري قراراً بمنع شراء أجهزة التكييف والاثاثات بالجهات الحكومية بكافة أنواعها وأشكالها إلا بعد أخذ موافقته، حيث تلاحظ ارتفاع بند الإنفاق على شراء تلك الاثاثات وأجهزة التكييف بكافة الوزارات والوحدات الاقتصادية التابعة للدولة... وهنا يطل علينا ابن الارندلي البريدي، بمعرفته التامة بالنظام المحاسبي الموحد وبالمحاسبة المالية الحكومية، وأبوابها وبنودها المختلفة، ودهاليز وخبايا نصوصها، ومناقلات بنود ميزانياتها، بفكرتين عبقريتين للالتفاف على قرار السيد رئيس الوزراء، الفكرة الأولي: كان الغرض منها شراء بعض أجهزة التكييف لعدد من موظفي الإدارة العليا، وذلك بشراء عدد من أجهزة الحاسب الآلي وبوضعها بمكاتب كل منهم، ومنطقياً لابد من تجهيز تلك المكاتب بالاثاث وبالتبريد الملائم حتى لا تصاب أجهزة الحاسب الآلي بخلل أو أي أعطال، رغم عدم تشغليها على الإطلاق في تلك الفترة، وكما علمنا الارندلي الأعظم الممثل نجيب الريحاني بمقولته الشهيرة: شئ لزوم الشئ... ولأننا في زمن التطوير والتحديث والحكومة الإلكترونية، فلا مجال للمناقشة أمام شراء أجهزة الحاسب الآلي، وبذلك تحقق الغرض المنشود بانقاذ موظفي الإدارة العليا من حر ولهيب حرارة الصيف والرطوبة الموحشة دون مخالفة قرار السيد رئيس الوزراء، وأن تضاعف الانفاق بشراء أجهزة حاسب آلي وأجهزة التكييف اللازمة لتبريده !!.. والفكرة الثانية: كان الغرض منها إنشاء ورشة للنجارة والحدادة تسمح بتصنيع مكاتب ومقاعد وغيرها من أثاثات، فشراء الخشب الخام وأدوات النجارة والحدادة وباقي مستلزمات التصنيع لا تندرج تحت بند الاثاثات بالميزانية والتي منعها قرار رئيس الوزراء، وعليه قامت تلك الورش بتقطيع الأخشاب وتصنيعها، ولكن كان على ما يبدو أن التصنيع كان بدائياً ولا يرتقي لأي معيار من معاير الجودة، وبتكاليف فاقت أسعار شراءها من مصانعها المتخصصة !!..

فابن الارندلي البريدي كله مهارة وشطارة وفهلوة وذكاء، يلعب بالبيضة والحجر، أقصد بالقانون ولوائحه، فهو يدرك نصوصه ويدرك كيفية التعامل معها والالتفاف عليها وتحقيق رغباته ومصالحه ورضاء رؤسائه، بخلاف شرف فتح الباب البريدي الذي تم إيداعه السجن لقيامه بالسرقة والتزوير، فلم يكن الأخير يملك المهارة ولا الشطارة ولا الذكاء بالقدر الذي أوقعه في شر أعماله، وكله على حساب المال العام !!..
.
وللحديث بقية ...
Ashraf_mojahed63@yahoo.com