الأربعاء، 29 أغسطس 2012

الخواجة البريدي !!..


بعد توقف عـدة أسابيع عن الكتـابة، لم أستطـع إلا العـودة بقـوة نابضـة دافـعة، قوة الإعجاب والانبـهار في ذات الوقـت بمشاهدة ومتابـعة حلقـات مسلسل الخـواجة عبـد القـادر.

فمنذ سنوات أتـابع عن كثب الممثل القدير يحيي الفخراني، ودائماً ما أجـد وجـهاً لترابـط اهتمامي بقضـايا البريد وما يقـدمه من شخصيات درامـية تعلق في ذهني لفترات طـويلة، فكتبت في السابق، شرف فتح البـاب البريـدي، وابن الارنـدلي البريـدي، والآن جـاء دور الخواجة البريـدي.

والقصة تبدأ حين يبحث هربرت " الخواجة عبد القادر" عن ذاته في خضم الحرب العالمية الثانية ويشعر بتعاسة شديدة وبعدم جدوى للحياة، فيذهب للعمل بالجنوب السوداني بحثاً عن الموت والفناء، فإذا به يقابل الشيخ عبد القادر، هذا الرجل الصوفي الذي أرشده إلى طريق الخلاص الروحي، والأمان النفسي، ومن خلال متابعته لكلمات الذكر والدعاء، الذي ملء قلبه، وزال عنه سكرات الخمر، وطلب الموت، كلمات رددت في نغم هادئ، وصوت رخيم :
الله ما طلعت شمس ولا غربت ... إلا وحبــك مقــرون بأنفـاسي
ولا خلـــوت إلي قـــوم أحدثـهم ... إلا وأنت حديثـي بين جـلاسي
ولا ذكـرتك محزوناً ولا فرحـاً ... إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
وتتـوالي الأحداث وينتقل الخواجة عبد القادر للعمل بصعيد مصر ليجسد سماحة الإسلام وتعاليمه، فيـده لا تعـرف إلا المعروف، وعقله لا يتسع لشر أو ضغينة، هكذا عاش عبد القادر، يحتمي بخالقه في وقـت الأزمـات والصـعاب، بقوله "يا حـي يا قادر أنقـذ عبـدك عبـد القـادر".

القصة قيل أنها حقيقية، لشخصية مهندس ألماني عاش في مصر، وقد تكون من وحي خيال المؤلف، ولكنها في جميع الأحوال جسدت بشكل رائع ومتميز، وأظهرت أن الغربة لا تعرف وطناً أو أرضاً، فعلى الرغم من هجرة الخواجة عبد القادر لوطنه الأصلي بريطانيا، والذي كان يشعر فيها بالغربة والقنوط واليأس، عرف معني الآلفة والحياة والحب بأرض بعيدة لا زوجة فيها ولا ولد، عرف معني السعادة الحقيقية والأمان القلبي، عرف أن الله وحده هو القادر على منحه تلك السعادة وتلك الطمأنينة.

أما الخواجة البريدي، فلا أعرف وجهاً للمقارنة بينه وبين الخواجة عبد القادر، إلا فيما أبدعه وأنجزه بإخلاص منقطع النظير، وأن كان مسيحيي الديانة، هذا الخواجة "سابا باشا" الذي تقلد رئاسة البريد المصري خلال الفترة من عام 1887 حتى عام 1907 وصاحب فكرة إنشاء صندوق توفير للبريد، حيث أراد جذب المدخرات الصغيرة بعيدا عن استغلال البنوك الأجنبية، بحيث يأمن فيه العامل والموظف والفلاح على الفائض من إيراده لاستغلاله وقت الحاجة، وخاصة بعد ما أكتسبه نظام البريد من رسوخ في التربة المصرية في الريف والحضر.

أهم ما ألمح إليه في هذا الترابط ، هو حرص هذا الخواجة البريدي، رغم ديانته المسيحية، ما ذكره في مشروعه على أن للمودعين حرية إيداع أموالهم بغير ربح، بعدما شعر بعكـوف بعض المسلمين عن إيداع أموالهم بالصندوق، كما رأى من باب التشجيع أيضا أن يجعل من حـق المـودع أن يشـترط استثمـار ودائعـه في الأعمال المقبـولة شرعـا؛ فاستصدر في ذلـك فتــوى شرعيـة من المرحـوم الشـيخ الأمـام محمد عبده مفتي الديار المصرية في ذلك العهد، وكان لهذه الفتوى أثرها العظيم في تشجيع المسلمين على إيداع أموالهم بصندوق التوفير.

الخواجة البريدي، لا أدري أن كان صوفياً أو سلفياً، ولكنه كان حريصاُ على طمأنة المسلمين، وعلى أموال صغار المودعين المصريين، وفي حقهم في استثمار أموالهم لخدمة الاقتصاد القومي، مقارنة بما نجد الآن من فضائح نهب أموال المودعين باستثمارات بالية، وأوراق مالية نافقة، وشراكة مع شركات بعضها وهمي وبعضها لا يعلم عن أرباحها وأعمالها إلا القليل.

الخـواجة عبد القادر خـلد ذكـره بمقام صغير بالصعيد، بينما الخـواجة سابا باشا خـلد أسمه بحي سكني بالإسكندرية، وليس لنا إلا الدعـاء " يا حي قـادر أنقـذ البريـد المصري من مكـر الماكـرين، وخـداع المحتالين !!.."

وللحديث بقية أن شاء الله...