الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

البريـدي الفصـيح ...


البريدي الفصيح كالفلاح الفصيح، حكاية متشابة مع اختـلاف المهـنة واختـلاف الزمـان، قصة المصري الذي أستقر على ضفاف النيـل منـذ الآف السـنين، وتأقلمه مع الاستـبداد والفساد، فالفلاح الفصيح سجله التاريخ بإبداعاته اللغـوية، وحسن تناسق كلماته، وإنسياب إفكاره، وكذلك البريدي الفصيح سـوف يسـجل كذلـك بكتاباته وحـواراته البريـدية !!..
.
والقصة التي وقعت أحداثها في العهد الأهناسي(الأسرة التاسعة 2160-2130) والذي كان أسوأ العصور الفرعونية إستبداداً، إذ غابت العدالة الاجتماعية وعم الفساد بين كبار موظفي الدولة، أن فلاحاً من أهالي مقاطعة الفيوم من إقليم وادي النطرون، كان يقطن بقرية تسمي حقل الملح، تبين له أن مخزن غلال أسرته أشرف على النفاد، فحمل قطيعاً صغيراً من الحمير بحاصلات قريته وسار به نحو مدينة أهناسية، يريد استبدالها بغلال تكفي أسرته بقية العام، وكان يتحتم عليه أن يمر بمنزل موظف صغير من موظفي أحد الأشراف... وأثناء سير الرجل بالقطيع التقم أحد الحمير بضع سيقان من جذور القمح، فاتخذها هذا الموظف ذريعة لكي يصادر تلك الحمير، فاحتج هذا الفلاح الطيب وقال أنا أعرف رب هذه الضيعة، فهي ملك مدير البيت العظيم وأعرف أنه هو الذي يقضي على كل سارق، فهل أسرق في ضيعته ؟!..رغم ما تعرض إليه من إهانه وضرب بدون رحمة أصر على رفع شكواه إلى مدير البيت العظيم.
.
تقدم الفلاح الفصيح بشكاواه بأسلوب أدبي خلاق، تعد من أروع القطع الأدبية والبلاغية على مر التاريخ المصري القديم، حيث شعر هذا المدير بسرور عظيم من بلاغة هذا الفلاح، البادية في حسن منطقه وفصاحة لسانه، حتى أنه تركه دون أن يقطع في قضيته برأي، وذهب إلى الفور إلى الملك وأطلعه على ما قاله هذا الفلاح الطيب، فسر الملك سرورا عظيما وكلف مدير البيت العظيم أن يصحب الفلاح معه دون أن يقطع في قضيته برأي رغبة في أن يرتجل له الفلاح خطـبا أخري أيضـاً، وأمر الملك بتدوين أقـواله بدقة وأن يقـدم له الطعـام والشراب وكل مايلزمه حتى يتم مهمته.
.
تسع شكايات تمثل إبداعاً أدبياً ألقاها هذا الفلاح الفصيح حتى وصل لمرحلة اليأس من مدير البيت العظيم والملك، أراد أن يذهب ليبث شكاواه إلى "آنوب" أي إله الموتي، كناية عن مقصده بأنه سوف ينتحر.. وعندئذ يتدخل الملك فيأمر بعقاب الظالم وإعادة كل الممتلكات المغتصبة إليه، وذلك بعد أن دون في بردية جديدة كل شكايات هذا الفلاح بحسب ترتيبها، والذي وصفها هذا الملك بأنها أحب إلي قلبه من أي شئ في كل البلاد..
.
القصة في نهايتها قد تكون سعيدة بالنسبة للفلاح الفصيح، كأول متظاهر في التاريخ يحصل على حقه، حيث أعيدت له ماشيته وممتلكاته، وعوقـب الجـاني، وهو ما كان يصـبو إليه ويسعه من أجـله ... أما البريدي الفصيح فلا يستطيع إعـادة ما سلب منه لأنها في الواقع أمراً غير محسوس، أمراً شعورياً في وجدانه وأحلامه، بتصحيح أوضاع عفنه، استشرت رائحتها الكريهة... لم يستطع مواجهة هذا الطوفان من الطغيان والاستبداد، تركهم لعله يجد ضآلته في أدبياته وسطور كلماته التي يعبر فيها عن حزنه وأسفه لأنه لم يستطع أن يكون مثل جده القديم، الذي أصبح أول متظاهر يحصل على حقه ونموذجاً ومثالا للمصري بمعدنه الحقيقي، المصري الفصيح...
.
وللحديث بقية أن شاء الله ...
Ashraf_mojahed63@yahoo.com

الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

مقهي الشارع البريدي !!..


مبني البريد المصري بميدان العتبة، يعد أحد أبرز علامات تراث القرن التاسع عشر المعماري، وواحد من أربعمائة وعشرين مبني تزخر بهم مدينة القاهرة التي حلم بها الخديوي إسماعيل، والتي كان يطلق عليها "باريس الشرق"، هذا الحلم أصبح حقيقة بعد خمس سنوات من تكليفه للمهندس الفرنسي هاوسمان، لإبتكار طراز معماري جديد يجمع بين الشكلين الأوروبي والإسلامي. والمبني مساحته تبلغ 4460 مترمربع، ويتخذ شكل شبه منحرف، تحتل واجهته الرئيسية القاعدة الكبري، وهو مكون من طابقين، ويحمل أعلي واجهته الرئيسية قبة كبيرة، على رأسها ساعة، تماثلان قبة وساعة جامعة القاهرة. ويطل من جهة على مبني مطافي القاهرة، والجهة الأخري على شارع يعرف بشارع البيدق... هذا الشارع الذي أصبح الآن سوقاً تجارياً لتجارة أدوات الإنارة والكهرباء ويمتلئ بالباعة الجائلين، وعربات الفول والفلافل والكبده والكشري، وغيرها من المأكولات الشعبية، يحتضن كذلك مبني الطرود الذي أصبح مقراً للبريد السريع المصري، ومبني آخر لموظفي البريد يعرف بعمارة البيدق.
.
وشارع البيدق رغم ضيقه يحوي بين جانبيه ثلاث مقاهي، أصبحت مقصداً للعديد من العاملين بالبريد، سواء القادمين من محافظات الدلتا أو الصعيد لمقابلة أحد المسئولين أو التقدم لوظيفة ما أو لإنهاء بعض المعاملات المتعلقة بمنطقته البريدية، ومقصداً يومياً للعديد من العاملين بالإدارة العامة... ورغم أن منطقة العتبة أشتهرت منذ القرن السادس عشر بتلك المقاهي، عندما أدخل أبو بكر بن عبد الله المعروف بالعيدروس شرب القهوة إلى مصر فأحبها الناس وسموها مكاناً لتجمعهم لشربها واحتساء النرجيلة وسماع ما يحكيه الراوي من قصص شعبية وملاحم بطولية... وخلود بعض تلك المقاهي في ذاكرة التاريخ كقهوة متاتيا التي كان من أبرز روادها السيد جمال الدين الأفغاني والأمام محمد عبده وسعد زغلول وعباس محمود العقاد، ومقهي القزاز التي كانت مقراً لأهل الريف حينما يأتون إلى القاهرة لقضاء مصالحهم، أو مقهي التجارة التي تحتضن الفرق الموسيقية ورواد الموسيقي، ومقهي الكتبخانة التي كان من أبرز روادها الشاعر حافظ إبراهيم والشيخ عبد العزيز البشري، ومقهي المختلط نسبة للمحكمة المختلطة وروادها من المحامين وأصحاب القضايا، وغيرها من المقاهي الشهيرة المنتشرة الآن بالقاهرة كمقهي الفيشاوي ومقهي ريش وقشتمر وعرابي وبعرة وغيرها... إلا أن تلك المقاهي الثلاثة بشارع البيدق أصبحت خلال فترة وجيزة المطبخ الخلفي للعديد من التراتيب المتعلقة بالعمل بالبريد المصري... فكلما مررت على تلك المقاهي الثلاثة صباحاً أو بالظهيرة أو بعدها تجد العديد من العاملين بالبريد المصري، خاصة ممن يشغلون مناصب قيادية أو ممن كانوا يشغلون مناصب قيادية وبلغوا سن المعاش، ومازال لهم تأثير أدبي ومعنوي على مجريات العمل داخل الإدارات البريدية...
.
دائماً ما كنت أشاهد بعض تلك الشخصيات البريدية تجلس ضمن حشد من مرؤسيها، يستمعون إليه ويتأمرون بأوامره وهو قابضاً يدخن الشيشة، وكأنها علامة من علامات القيادة... ولأنني لست من محبي تلك الجلسات، وغير مبالاً بحكاوي القهاوي، فقد كنت أسير سريعاً بحيث لا ينتبه أحد لمروري، حتى أتي ذلك اليوم الذي رأني أحد المديرين الكبار وأراد أن يلقني درساً بريدياً خاصاً، وقد تعاملت معه في عدة مواقف في العمل أغضبته في بعض الأحيان وساعدني أحياناً في حل بعض المشاكل التي أبتليت بها خلال عملي... بيننا احترام متبادل، مع فارق السن والخبرة التي أكتسبها عبر أربعين عاماً بالعمل في البريد المصري حتى وصل لتلك المرتبة الوظيفية العليا.
.
أراد أن ينصحني ويعلمني ويرشدني، وقد شارف على سن المعاش، وأعتقد أنه يكن لي بعض الأحترام والمحبة، ولكنه لم يستطع البوح بكل تلك المشاعر... سمعته يناديني من على تلك المقهي بصوت مرتفع، فتوجهت إليه على الفور وألقيت عليه التحية وسلمت علي الحضور ممن حوله وجلست لبضعة دقائق كانت ضرورية لسماع نصيحته البريدية ودرسه الذي تعلمه على مدار عمله المتدرج بالبريد المصري... حكى عن طريقة اختيار القيادات والمديرين بالبريد المصري، فقال إذا كان لدينا موظف لديه معرفة متقنة بالعمل وعنده من المهارة في إنجاز المهام التي يكلف بها، وعنده القدرة على تطوير وتحسين العمل بنسبة 90% ، ولكنه يناقش رؤسائه، ويختلف معهم، ولا ينفذ إلا صحيح ما يراه... وآخر لا يجيد العمل ولا يعرف إلا ظاهره وغير مكترث بتطويره وتقدمه إلا بنسبة 10%، ولكنه حريص كل الحرص لإرضاء رؤسائه داخل وخارج نطاق العمل، ينفذ ما يطلب منه دون تفكير أو تردد... فمن تختار ؟!... على الفور كانت الأجابة الثاني طبعاً، لأننا في البريد المصري!!... تفهمت مقصده على الفور، وما يصبو إليه من تلك الرواية، شربت كوباً من الشاي الساخن وانصرفت بعد أن ألقيت عليه التحية والدعاء له بالتوفيق ودوام الصحة، حيث شارف على بلوغ سن المعاش، وأراد أن ينصحني بتلك الكلمات، بغية اللحاق بالركب، ونيل الرضا من رؤسائي.
.
هذه وصيته الأخيرة لي وما أرادني أن أتعلمه وأتفهمه، بيد أن حكاية أخري أصبحت ذات تأثير أكبر وأقوي من وصيته، حكاية تشبعت بداخلي وأصبحت لا أستطيع الانفكاك منها، أخذتها نبراساً لحياتي، وأعلمها لأبنائي، ولا أخجل من التمسك بها، حكاية رجل يدعي إبراهيم بك شفتر، رئيس الجمعية المصرية لهواة طوابع البريد، الذي استطاع بمهارة فائقة أن يرتب لإنعقاد أول معرض طوابع بريد دولي في القاهرة عام 1946، وقام بافتتاحه الملك فاروق، الذي أنعم عليه برتبة البكوية لأعجابه الشديد بمهارة ودقة هذا الرجل.. إلا أن إبراهيم بك شفتر كرئيس منتخب لتلك الجمعية رفض فيما بعد تسليم الملك مجموعة من الطوابع تم طباعتها بطريق الخطأ لصورة الأميرة فريال، وأصر على إعدامها استناداً إلى اللوائح والاتفاقيات الدولية، التي تسمح له كرئيس لجمعية هواة الطوابع بالإشراف على إعدام الطوابع التي تم طباعتها وتكون بها أخطاء مطبعية لأنها من الأمور التي تشين أي هيئة في العالم، متحدياً رغبة الملك فاروق في الاحتفاظ بتلك الطوابع النادرة والتي تم طباعتها وبها أخطاء كثيرة.. إلا أن هذا التحدي قابله غضب شديد من الملك فطلب من عبود باشا رئيس مجلس إدارة شركة السكر التي كان يعمل بها إبراهيم بك شفتر كأحد كبار موظفيها، أن يصدر أمراً بنقله للعمل في كوم أمبو في أقصي صعيد مصر، وبالتالي أجبر على تقديم استقالته من الجمعية المصرية لهواة طوابع البريد، وتولي نائبه أحمد مظلوم باشا رئاسة الجمعية.
.
طبعـاً لم استطع ذكر تلـك الرواية أمـام الحضـور في ذلـك المقهي، رغـم إيمـاني وقنـاعتي بأن الإقـدار تتدخـل دائمـاً لرسم طـريق البشر، ولكن الإنسـان لن يكـون إنساناً مالم يرضـي ضمـيره وإنسـانيته، حتى لو ظــل موظفــاً بالبريـد المصـري بمكـتب بريـد كـوم أمبو!!...
.
وللحديث بقية أن شاء الله ...

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2010

السياسة × البريد !!..


المقولة الشهيرة التي كان دائماً ما يرددها الرئيس الراحل أنور السادات "لاسياسة في الدين ولا دين في السياسة"، تحورت في تلك الأيام الصعبة بفعل فاعل، وأصبحت "السياسة تفسد الدين والدين يفسد السياسة"... وظني أن كلاهما باطل وأريد بهما باطل!!.. ذلك أن الدين الصحيح لا يفسد لا سياسة ولاغيرها، وإنما جاء الدين الحق ليصلح ما أفسده الساسة، وغيرهم من بني البشر، ولو كان الدين يفسد كما تزعم تلك المقولة ما بعث الله الأنبياء والرسل حاملين إياه لإفساد البشر، فإبليس كان وحده كفيلاً بتلك المهمة...
.
هذه المقدمة كانت ضرورية بعدما تلقيت رسالة من أحد الأصدقاء الذين يتابعون مدونتي "حوارات بريدية" يقول فيها أن آخر مقـالين بالمدونة غلب عليهما الطـابع السياسي، وأقحمتها في البريـد بشكل لافت، وأنه أراد أن يذكرني استنــاداً للمقــولة المشار إليها بأنه "لا سياسة في البريـد ولا بريـد في السياسة".... فكــان لزامــاً علي الإيضـاح.
.
في اعتقادي أن البريد حياة، أو جزء من تلك الحياة، بمشاكلها وتعقيداتها، بحلوها ومرها، بتنافسها وصراعات أهلها، فالبريد بمشاكله وهمومه وصراعات موظفيه وتنافسهم والتحامهم اليومي مع بقية البشر جزء من تلك الحياة، واستمراره يتطلب نوعا من التواصل الإنساني والتداخل والتدافع الاجتماعي... وهو شأنه شأن باقي الأنشطة، يتفاعل مع من حوله من بيئة مجتمعية مستقرة كانت أو غير مستقرة، يترجم واقع الحياة بواقعه الصغير الممتد ليس داخل بلادنا فحسب، بل داخل عشرات البلدان التي تنتمي لمنظومة الاتحاد البريدي العالمي. إلا أنه يمتازعن غيره بأنه متلاصق مع التاريخ، مدوناً له ومسجلا لفتراته وأزمانه، ولذلك نجد ثمة اهتمام غيرعادي وتداخل من الساسة ورجال الدولة في شئونه وإدارة دفته.
.
فالبريد المصري منذ إنشائه عام 1865 ارتبط بسياسة الدولة، حيث آثر الخديوي إسماعيل سياسة الاحتواء عند شراء الحكومة المصرية شركة البوستة الأوربية من صاحبها موتسي بك الإيطالي الجنسية، بتعيينه مديراً لها بغية إدارتها بالطريقة التي تخدم مصالح البلاد، فمعظم العاملين من الأجانب الأوروبيين، والإدارة تتطلب نوعاً من السياسة والحكمة، وتدريجياً وبإدخال العمالة المصرية، تم تكليف حسن باشا مظلوم كأول مصري يترأس هذا المرفق الهام عام 1923 ليكون مصرياً خالصاً ... كما ثمة مؤشراً آخر، حيث لعبت السياسة دوراً رئيسياً في إزاحة طلعت باشا حرب عن رئاسة بنك مصر في سبتمبر1939، حينما رضخ فؤاد حسيب مدير مصلحة البريد لأوامر وزير المالية حسين سري باشا بسحب ودائع صندوق توفير البريد من البنك استجابة للاحتلال البريطاني، مما أدي لتسارع آلاف المودعين بسحب أموالهم من البنك، وكان الشرط الوحيد لحل الأزمة هو أن يقوم طلعت حرب بتقديم استقالته، وهو ما تم بالفعل، فأعيدت الودائع مرة أخري.
.
أما بعد ثورة يوليو 1952 فقد تحولت هيئة البريد كباقي الهيئات والمرافق الحكومية، خاضعة لسياسة وحيدة، وهي سيطرة الصف الثاني والثالث من الضباط الأحرار، بتفضيل أهل الثقة على أهل الكفاءة، ومكافأة لهم على ما قاموا به من جهد خلال الثورة، فتغلغل ونفوذ ضباط الجيش في كافة الهيئات الحكومية والوزارات كان السمة الرئيسية لمرحلة ما بعد الثورة حتى أوائل السبعينات، وخاصة هيئة البريد التي استخدم طوابعها للدعاية السياسة بشكل كبير، فالطوابع المصرية تلونت بأحلام الثورة وشعاراتها وصارت تعبر عن مواقـف سياسية، كتأميم قناة السويس، وجلاء القوات البريطانية، والدفاع عن بورسعيد من العدوان الثلاثي، بالإضافة لإحياء ذكري الثورة العرابية وموقعة حطين وعين جالوت وغيرها من الانتصارات التي حققها العرب، فالسياسة مورست عبر الطوابع الرسمية لإلهاب روح الحماسة والانتصار علي الغرب... كما أن السيطرة على أموال صندوق التوفير بإلزام هيئة البريد بإيداع حصيلة التوفير في صندوق الاستثمار وفقاً للقانون رقم 45 لسنة 1966 كان قراراً سياسياً لتمويل خطة الدولة ومشروعاتها الاقتصادية.
.
أما حالياً فالسياسة في اشتباكها بالبريد بات أمراً ساطعاً سطوع الشمس، وإلا ما كان ليفرز لنا البريد المصري وزيرين متعاقبين يخرجان من رحمه، وماكانت عودة سياسة أهل الثقة بثوبها الجديد وبشكلها الإنفتاحي تغزو معاقل البريد المصري من جديد، وما وجدنا هذا الاهتمام البالغ باستثمار أموال مودعي صندوق التوفير فيما يخدم اتجاهات أصحاب الفكر الجديد، فكر المستقبل !!..
.
فالسياسة لعبت وتلعب دوراً بارزاً في توجيه البريد المصري منذ إنشائه حتى يومنا هذا، سياسة الحكومات تارة، وسياسة الأفراد تارة أخري، سياسة المحرك عن بعد، والمقطور دون رؤية القاطر...
.
وللحديث بقية إن شاء الله ...
Ashraf_mojahed63@yahoo.com

الجمعة، 3 سبتمبر 2010

بريد الحزب الوطني !!..


خلال النصف الثاني من التسعينات تردد أمامي بعض الكلمات عن مواظبة بعض قيادات البريد المصري على الذهاب للنادي السياسي للحزب الوطني، لم أستوعب وقتها مدي أهمية تلك المواظبة، فلم تكن من عادات تلك القيادات في السابق هذا الارتقاء الحزبي، والجنوح نحو السياسة بشكل علني، إلا بعد أن وعي أحدهم الدرس من سابقه الذي ترشح مستقلا لخوض انتخابات مجلس الشعب عام 1995 وفشل في دخول البرلمان لكونه ترشح مستقلا، رغم كثرة الخدمات التي قدمها لأهل دائرته بتشغيل وتعيين العشرات منهم بالبريد المصري، حينما كان يشغل رئاسته، مما عزا بخلفه، وبعد أن تعلم الدرس بالبقاء في رئاسة البريد المصري عاماً إضافية بعد بلوغه سن المعاش كسابقة أولي لم تحدث لأحد قبله.
.
هذه الإنباء والأخبار ذاع صيتها بشكل علني ودون مواربه، بكثرة تواجد كوادر جديدة نشطة من الحزب الوطني داخل أروقة البريد المصري، هذه الكوادر سرعان ما سطع نجمها، وبرزت بشكل أكثر تأثيراً بقدوم الدكتور علي مصيلحي ريئساً للبريد المصري أواخر عام 2002، والذي ظهر جلياً بحماسة العديد من العاملين من داخل البريد المصري أثناء الحملة الانتخابية له عام 2005 والتي ترشح فيها عن دائرة أبو كبير بمحافظة الشرقية، فالملصقات الدعائية والصور والمسيرات ومظاهرات التأييد والمناصرة وغيرها كان الشغل الشاغل للعديد منهم، قابله سخاء وعطاء وترقية من ناصره وأيده بعد تحقيقه فوزاً صعباً على منافسه الإخواني.
.
أمر طبيعي ومعتاد أن يمارس كل شخص حريته في تقدير موقفه السياسي والحزبي، ولكن الأمر الغير طبيعي تغلغل تلك السياسات داخل الهيئات التنفيذية للدولة بالصورة التي تخدم حزباً دون الآخر، وتخل بمبدأ تكافئ الفرص بين تلك الأحزاب... وما تظن إن كان الموقف ذاته تم لأحد أعضاء حزب الوفد أو حزب التجمع أو الإحرار ؟!.. ستتهم على الفور بالمعارض، والخارج على الشرعية والداعي للفتنة، والعمالة، وسوء الفهم والتقدير وغيرها، ولو كنت مديراً ستصبح موظفاً، ولوكنت موظفاً ستصبح ساعياً، ولوكنت ساعياً ستندم بقية عمرك على ما اقترفت لاختيارك السياسي.
.
أنا لست من أنصار المعارضة، ولا أنوي أن أكون معارضاَ ضمن تلك الأحزاب الهشة الورقية، وكذلك لست مع حزب لا يرعي مصالحي ومصالح زملائي البريديين والملايين من بني وطني... أنا لست مع أو ضد !!.. ما أريده وأتمناه للبريد المصري أن تسوده المساواة والعدالة، في التعيين والترقي، في المكافأت والحوافز، في المزايا والبدلات، مكافأة المجتهد وتشجعيه ومعاقبة المقصر وتوبيخه، عدالة في إتاحة الفرصة للمجتهد أن يجتهد، والمجد أن يتقدم ويجني ثمار جده، عدالة لا تفرق بيني وبين غيري لمجرد أرائي أو انتمائي الحزبي، عدالة تحمينا من شلة الطبالين والزمارين!!..
.
الموسم الانتخابي قد حضر، وحضرت معه عشرات ومئات طلبات أعضاء الحزب الوطني لتعيين أقاربهم وذويهم وأبناء دوائرهم بالبريد المصري وبقية الهيئات الحكومية الأخرى، والاحتجاج العارم لبعض نواب الحزب الوطني ضد الدكتور طارق كامل، وزير الاتصالات لوقف التعيين في الوزارة والشركات والهيئات التابعة لها بنظام المسابقات وقصر التعيين من خلال الطلبات التي يقدمها له النواب لذويهم نموذج لسياسات الفرقة والتشرذم الذي منيت به ثقافتنا السياسية (صحيفة الوفـد بتـاريخ 21/2/2010)... وظـني أيضـاً أن التكـريم الذي أقـامته أمـانة الحزب الوطـني بالقـاهرة للدكتـور أشرف زكـي، رئيس مجلس إدارة البريـد المصـري لم يخـرج عن السـياق ذاتـه (صحـيفة اليـوم السـابع 27/7/2010).
.
في اعتقادي أن المصالح الشخصية والفئوية أو الاتجاهات الحزبية لم تخدم البريد المصري على المدى البعيد، فالبريد المصري يحتاج إلى كفاءات مدربة تدريباً تقنياً وتكنولوجياً، كفاءات من نوع خاص لمواجهة طوفان الشركات الأجنبية والخاصة ومنافستها الشرسة في سوق بريدي واعد، البريد المصري يحتاج لمزيد من العدالة والشفافية في اختيار قياداته ومديريه، في تحقيق طموح وآمال أكثر من 50 ألف موظف يعملون بكل جهد لتقديم خدمات تمس حياة المواطنين في ظل ظروف صعبة، يحتاج لتظافر جهودهم بعيداً عن الاعتصامات والاحتجاجات والتي ما شبت خلال العام الماضي إلا نتيجة لتلك السياسات الحزبية والفئوية... كما أن الحزب الوطني لن يكون حزباً كبيراً باستئثار المال والسلطة واحتكار الوظائف القيادية بالدولة، لن يكون كبيرا بعدد محدود من أصحاب المصالح وطالبي الوظائف العليا والسائرون في ركابهم... بل سيكون أكبر بتحقيق العدالة والمساواة وبث روح العمل والاجتهاد بين أبناء الوطن الواحد...
.
وللحديث بقية إن شاء الله ....