الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

البريد وسنينه !!..


يعتبر الكتاب التذكاري تاريخ البريد في مصر، الذي كتبه حضرتا إبراهيم جرجس أفندي رئيس قلم المحفوظـات وعمرعبد العزيز أمين أفندي الموظـف بالإدارة العامة بمناسبة انعقاد مؤتمر البريد العالمي العاشر بالقاهرة في فبراير 1934 من أبرز ما كتب في تاريخ البريد سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، فهو يشير إلى تاريخ البريد من أول وثيقة جاء بها ذكر البريد حوالي عام 2000 ق.م حتى تاريخ انعقاد المؤتمر بالقاهرة عام 1934م، مروراً بدولة البطالمة والرومان، ثم عهود الخلافة الإسلامية المتعاقبة على مصر... أبرز ما يحتويه هذا الكتاب النادر الصور النادرة والمعلومات الموثقة والأرقام الدقيقة والرسومات البيانية الرائعة، كما لفت انتبائي ما ورد فيه من رفض الخديوي إسماعيل أن تتولي شركة أجنبية هذا الجانب الحيوي من مصالح مصر المحروسة، حيث أمر بشراء شركة البوستة الأوروبية بأي ثمن وقبل انقضاء عقد امتيازها بثماني سنوات، وتابعه في خطاه الملك فؤاد الأول، الذي أعلن في خطاب له بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية عام 1931م بأن الحكومة المصرية توصلت إلى إلغاء مكتبي البريد الفرنسي بالإسكندرية وبورسعيد وهما آخر المكاتب الأجنبية التي تعمل داخل القطر المصري كشهادة جديدة على نجاح مصلحة البريد في إداء دورها الوطني تحت إدارة أبنائها الوطنيين، التي عملت دائماً على الاحتفاظ بما لهذه المصلحة من السمعة الطيبة.
( والله ناس كانت بتفهم !!...)

نعمان أفندي أنطوان، من موظفي مصلحة البريد وصاحب كتاب الطائر الغريد في وصف البريد الصادر عام 1890م، أورد خطبة لأحد مديري مصلحة البريد المصري لمجموعة من الموظفين الجدد أوائل القرن الماضي، أعجبني منها فقرتين:
يقول في الفقرة الأولي: اعلموا أنكم لاتخدمون مصلحة، بل البلاد وأهلها، فان خدام البريد هم خدام الأمة الامناء المحافظون علي أمانتها، فمن يخدم البريد بأمانة لايعدم جوائزه، ولايخشي أنصرام حبل نواتله منه، لان البريد ليس من المصالح الوقتية بل من المصالح المؤسسة علي صخرة، فهو دائم مع دوام العالم، وأعلموا أن عيون العالم رقيبة علي أعمالكم وألسنتهم تنطق عليكم في كل آن بالرضا أو السخط بحسب ماتستحقون.
وفي الفقرة الثانية: افتخر بأن أقول لكم أني قبل أن أصل الي هذه الدرجة فقد تنقلت في أكثر وظائف البريد فكنت كعسكري بلغ درجة جنرال تدريجا ولم يكن لي معين علي ارتقائي بعد المولي الا اعتنائي وإتقاني العمل بالوظائف الحقيرة كالعظيمة، فلا توقفوا همكم عند حدود درجتكم بل افسحوا الامل للمعالي ولايعترينكم ملل في طلابها فأنه لابد لكل مرفق من التعب ولابد دون الشهد من أبر النحل، واعلموا أن ليس في طريقكم أقل عثرة تؤخركم عن نيل الآمال الحسنة فأنتم في عصر التمدن وأبناء بلاد الحرية وخدمة مصلحة أمينة حريصة علي العدل والمساواة.
(ولا تعليق !!..)

عشرات الأفلام والروايات التي لعب فيها ساعي البريد دوراً محورياً في تحريك صورته العامة، فنجد أفلاماً تناولته بطريقة هزلية أو احتفائية أو وظيفية أو كحيلة درامية، فنجده محورياً في فيلم لن أعترف للمخرج الراحل كمال الشيخ، وكذلك في فيلم قلبي على ولدي للمخرج جمال مدكور، ونري في فيلم الراجل ده هيجنني للمخرج عيسي كرامة ذلك الزوج الساذج عطية (فؤاد المهندس) الذي ينتظر زوجته أمينة (شويكار) ما يقرب من عشرين عاما بحجة أنها خرجت تشتري طابع بوسطة، كما أن مبني البوسطة في ميدان العتبة كان محوراً لأحداث كوميدية هزلية في فيلم العتبة الخضراء، بعدما أوهم النصاب (أحمد مظهر) الريفي البسيط (إسماعيل يس) لشراء العتبة بكل مبانيها ومن بينها مبني البوسطة، ناهيك عن العديد من الأفلام العربية والأجنبية الأخري التي تناولت ساعي البريد، كان أبرزها من الناحية الفنية والتقنية فيلم البوسطجي للراحل شكري سرحان عن قصة الكاتب الكبير يحيي حقي، وفيلم ساعي البريد الذي حصل على عدة جوائز أوسكار للممثل والمخرج كيفن كوستنر... أما أبرزها سخرية ما ورد في فيلم الفتوة للمخرج الراحل صلاح أبو سيف، حيث يظهر الصعيدي الساذج هريدي (فريد شوقي) الذي لا يجيد التعامل مع صندوق توفير البريد فيضع مدخراته اليومية من نقود باسقاطها في صندوق إرسال الخطابات، ويظهره وهو يحاول بعد عدة أيام فتح الصندوق لأخذ مدخراته التي بالطبع ضاعت عليه !!...
(ولا عزاء للصعايدة !! ..)

على مر العصور نجد أن العاملين بالبريد لهم خصوصية وأصول مرعية يتقلدونها، ولتميزهم بنوع جامع بين اللياقة والمهابة، فكانت علامة البريد عند الرومان قطعة من البرونز بقدر الريال منقوش عليها أسم بوستة، وهو ما صار عليه البريد الفرنسي في عهد لويس الحادي عشر، فكانوا يلبسون ملابس خاصة كتب عليها بأحرف مزركشة بالقصب، إلى أن جاء نابليون بونابرت فأمر أن يتقلد رجال البريد نوعاً من السلاح الأبيض اللطيف كنوع من الوجاهة، وظلت تلك الأصول والعلامات بأشكال وأنواع مختلفة كالعلامات النحاسية المنقوش عليها أسم البريد أو أزرار السترة الظاهرة التي نقش عليها وغيرها... تقاليد وأعراف مفيدة اندثرت وضاعت حتى أصبحنا نحلم اليوم بأن يضع موظف البريد ولو بطاقة رسمية على صدره تمكنه من إداء عمله ويتعارف بها سواء داخل مبني البريد أو خارجه !!...

هل تتصور أن تقوم الدولة ببيع تاريخها في مزاد علني ؟!!..
نعم .. والقصة في الآتي :
بتاريخ 21 ديسمبر 1865م صدرت أول موافقة لوزارة المالية المصرية باصدار طوابع البريد احتكارا للحكومة المصرية، وكان من الطبيعي أن يشرف علي تصميم وطباعة تلك الطوابع المبكرة نفر ممن عادوا من بعثة الأبناء التي أرسلها محمد علي الكبير إلي فرنسا في يوليو 1826م والمكونة من أربعين طالبا لدراسة الصناعات والفنون، ومن بينها الرسم والحفر والطباعة والتي أشرف عليها المسيو جومار، والذين عادوا إلى مصر في عام 1830م، أو جيل من تلاميذهم، وربما تمت الطباعة في ذلك الوقت في المطابع الاميرية، أو في مطابع مصلحة المساحة، أو ربما طبعت في انجلترا كما كانت العملات الورقية تطبع هناك والتي بدأ اصدارها في مصر عام 1898م مع أنشاء البنك الاهلي المصري وحصوله علي امتياز إصدار النقد في البلاد لمدة خمسين عاما.
.
وكان طابع البريد المصري قد صدر بالتزامن مع العملة الورقية وبنفس الدقة في السمات والألوان، بحيث أنه إذا نظر إلي طابع البريد تحت عدسة مكبرة سيري بوضوح سمات مشتركة بينهما، حيث كان الحرص علي زيادة التعقيد في تفاصيل التصميمات وعدد الألوان ودقة الطباعة، لتجنب محاولات التزييف في طباعته، غير أن الطوابع عرفت صور الملوك في مصر قبل العملات الورقية، فأول عملة ورقية طبع عليها صورة ملك، كانت في عهد الملك فاروق الاول عام 1941م ، وفي عام 1952م ومع قيام ثورة يوليو تم رفع صورة الملك من العملة الورقية وحلت محلها صورة قناع الملك الفرعوني توت عنخ آمون، وتابعها رفع صور الإسرة المالكة من كافة إصدارات الطوابع البريدية.
.
وعندما لجأت الثورة إلي بيع ممتلكات الأسرة المالكة في مزاد كان الإعلان يتضمن المجموعة النادرة لطوابع البريد من المجموعة الملكية التي كان الملك فاروق حريصا علي جمعها بشغف كبير وقد أقيم لها مزاد خاص في 12 فبراير 1954م الموافق عيد ميلاد الملك المخلوع، وقد عقد المزاد بقصر القبة وتمت الدعوة له عالميا، كانت المجموعة من أندر المجموعات في العالم، وقد أوكل إلي نائب رئيس جمعية هواة الطوابع المصرية أمر الاشراف علي الجرد مع خبراء مصريين وأجانب، واقتضت المهمة خمسة شهور من العمل المتواصل، ويورد الدكتور ماجد فرج معلومات قيمة عن هذا المزاد في عدد يناير 2001م من مجلته المرموقة مصر المحروسة) الجزء الرابع ص76،82) ، حيث أورد أن الملك فاروق كان حريصا علي اقتناء التصميمات الأصلية لطوابع البريد وعدد من نسخ التجارب وبروفات الطباعة منذ عام 1925م، كما أن المجموعة تضم سجاجيد صغيرة نسجت علي شكل طوابع بريد مصرية.
.
أن ضياع هذا الكنز الكبير من مجموعة طوابع البريد الملكية خسارة كبيرة يفوقها خسارة تلك التصميمات الأصلية التي وضعها الفنانون لجميع الطوابع التي طبعت بمصر لمدة سبعة وعشرين سنة، ومعها بروفات الطباعة، اذ أن تلك المقتنيات تمثل مصدرا نادرا لتاريخ فنون التصميم والطباعة في مصر كان الأجدر أن يحتفظ بها في متحف خصوصي له أبعاده الثقافية والفنية والتعليمية لانظير له في البلاد. (نقلاً عن مجلة أخبار الأدب العدد 531 بتاريخ 14 سبتمبر 2003 م).
.
وللحديث بقية ...
Ashraf_mojahed63@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: