السبت، 24 مايو 2008

خصخصة الخدمات البريدية ..

.
من منا لا يعرف طلعت حرب !!...
.
سألتني ابنتي -عشر سنوات- هل طلعت حرب رجل وطني؟
.
قلت لها بالطبع فهو أبو الاقتصاد المصري، وصاحب الفضل في تحرير الاقتصاد المصري من السيطرة الأجنبية، وهو من قام بتأسيس بنك مصر كأول بنك مصري بأموال مصرية خالصة، وهو من أسس شركات عديدة وطنية مثل شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى، وشركة مصر للنقل النهري، وشركة مصر للملاحة البحرية، وشركة مصر لأعمال الإسمنت المسلح، وشركة مصر للصباغة، وشركة مصر للمناجم والمحاجر، وشركة مصر للألبان والتغذية، وشركة مصر للكيمياويات، وشركة مصر للفنادق، وشركة مصر للتأمين، وشركة مصر للمصنوعات المصرية، وشركة مصر للطيران ، كما أسس أول مطبعة مصرية...
.
قالت في تعجب !!.. وهل من يقوم ببيع هذه الشركات وطني أيضاً ؟ .. لم أستطع الرد، وظللت صامتاً عاجزاً عن الإجابة، لأنني لست متخصصاً في علم الاقتصاد أو على دراية كافية بظروف وملابسات كلا الطرفين ..
.
بيد أن موضوع الخصخصة قد طرح نفسه بقوة خلال العقدين الماضيين، وعلى اهتمام بلدان العالم سواء كانت متقدمة أو نامية، فعبارة الخصخصة مصطلح اقتصادي لكلمة privatization ولا يوجد لها مفهوم دولي متفق عليه بين البلدان، حيث يتفاوت هذا المفهوم من بلد لآخر .. ويمكن القول أنها فلسفة اقتصادية حديثة ذات استراتيجية لتحويل عدد كبير من القطاعات الاقتصادية والخدمات الاجتماعية التي لا ترتبط بالسياسة العليا بالدولة من القطاع العام إلى القطاع الخاص، فالدولة يجب أن تهتم بالأمور السياسية والإدارية والأمنية التي ترتبط بسياستها العليا، أما سائر النشاط الاقتصادي فيمكن أدائه من قبل القطاع الخاص في إطار قوانين وأنظمة تضعها الدولة ..
.
أما عن البريد ، فكان كما هو معروف أحد الركائز الأساسية لبنيان الدولة منذ أن ظهرت بنظمها الإدارية والسياسية قديماً وحديثاً، هذه الأهمية لها شواهدها، فالخديوي إسماعيل على سبيل المثال أحس بأهمية شركة البوستة الأوروبية التي كانت تسيطر على أعمال البريد في مصر، فأصر على شرائها من صاحبها موتسي بك عام 1865 لتصبح ملكاً للدولة المصرية، دليلاً على أهمية هذا المرفق وارتباطه بأمور الدولة وأسرارها..
.
وحديثاً وخلال الأعوام القليلة الماضية برزت فكرة خصخصة الخدمات البريدية بدول عديدة كان أبرزها وأكثرها ضجة خصخصة البريد اليابانى، فالحكومة اليابانية بدأت مؤخراً خطة طويلة الأمد لخصخصة البريد بعد سنوات من الجدل السياسي، وبعد الحملة التي شنها رئيس الوزراء الياباني السابق كويزومي، الذي جعل من إصلاح البريد المسألة الرئيسية في برنامجه الانتخابي، حيث أعلن بعد فوزه بالانتخابات عام 2005 وموافقة مجلس الشيوخ الياباني على خطة لتقسيم هيئة البريد إلى أربعة كيانات منفصلة هي الصيرفة والتأمين والبريد وخدمة العملاء، والبريد الياباني كما هو معروف من أكبر الكيانات البريدية في العالم حيث يضم نحو خمسة وعشرون ألف مكتباً وتبلغ أصوله نحو ثلاثة مليارات دولار.... كما هناك عملاقاً ألمانياً حقق أرباحاً هائلة خلال السنوات القليلة الماضية يجب أن نشير إليه أيضاً وهي شركة الخدمات البريدية الألمانية "دويتشه بوست" التي واكبت تحولات السوق العالمي في إطار العولمة الاقتصادية وقيام الاحتكارات الضخمة وذلك بتنويع نشاطاتها وتوسعها إلى السوق الخارجي بشراء سلسلة من الشركات في مجال النقل البريدي واللوجستي مثل شركة دانزاس السويسرية و دي اتش إل للنقل السريع وشركة ايربورنه الأمريكية وأخيراً شركة الخدمات البريدية البريطانية أكسل ..
.
أما الإدارات البريدية العربية فمازالت لم تنزلق قدميها بعد لسلم الخصخصة، فنجد معارضة عمالية ونقابية ببعض الإدارات كإدارة بريد المغرب والبحرين والأردن والسودان، بينما تعيد دولة الإمارات العربية إعادة هيكلة مؤسساتها البريدية فأنشئت شركة قابضة للبريد تضم عدة شركات تضوي تحت لواء الشركة الأم، وهناك إدارات أخرى كإدارة بريد السعودية تسير بخطي نحو الشراكة والاندماج مع إدارات بريدية أكثر خبرة وتقنية...
.
واللافت للنظر أن دولاً ينظر إليها على أنها قاطرة النظام العالمي الجديد، وتدفع المؤسسات الاقتصادية الدولية للضغط لمزيد من التحول للقطاع الخاص بمختلف البلدان النامية عجزت عن خصخصة قطاع البريد لديها، فنجد بريطانيا على سبيل المثال رغم تجربتها الناجحة في مجال الخصخصة، فقد حاولت الحكومة البريطانية خصخصة البريد بنشر ما يعرف بالكتاب الأخضر عام 1994، الذي أوصي ببيع أسهم 51% من أسهم البريد الملكي، ولكن معارضة النقابات العمالية وأعضاء بمجلس الشيوخ أفشلت المشروع واستعاضت عنه الحكومة عام 1995 بإجراء إصلاحات إدارية ومالية لتدعيم استقلال البريد... وكذلك خدمة البريد الأمريكي الذي يمتلك احتكاراً لبريد الدرجة الأولي متحصناً بقوانين الاكسبريس التي تحرم على الأفراد والمؤسسات تقديم خدمات نقل البريد الدرجة الأولي، وبذلت محاولات عديدة سعياً وراء إلغاء تلك القوانين بحيث تتمكن الشركات الخاصة من الدخول للمنافسة للخدمة البريدية الحكومية، ولكن جميع تلك المحاولات كانت تصطدم باحتجاجات عنيفة من قبل اتحادات موظفي البريد، ومن مديري خدمات البريد التنفيذيين، ومن المجتمعات الريفية التي تعتقد بأنها ستُحرم من الخدمات البريدية.
.
ورغم كل ما يقال عن الاختلال الهيكلي للمؤسسات البريدية بالبلدان النامية وبكل ما تعانيه من خسائر مالية وقصور إداري لا يمكنها من مسايرة التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، فان التخوف من نظام العولمة الاقتصادي التي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بثالوثه المؤسس: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والذي يهدف إلى تكريس قيم الغرب وتنمية الحياة الاقتصادية وفقاً لمبادئها وقيمها لتحقيق غاية نهائية ووحيدة تتمثل في أحكام السيطرة على البلدان النامية والفقيرة لمزيد من الهيمنة ونهب ثرواتها الطبيعية ولضمان مزيد من الترف وارتفاع معيشة شعوبها ولو على حساب باقي الدول، يجعلنا نشد على عضد تلك البلدان النامية وهي قادمة على مؤتمر البريد العالمي/ جنيف 2008 لكي لا تنساق لخصخصة خدماتها البريدية بحجة التطوير والتحديث ومواكبة التكنولوجيا على حساب تقديم الخدمات البريدية لمواطنها العادي، الذي سوف قد يحرم حتى من حق التراسل البريدي في ظل ما يلاقيه الاتحاد البريدي العالمي من ضغوط النظام العالمي الجديد...
.
وللحديث بقية ..

ليست هناك تعليقات: