الثلاثاء، 10 نوفمبر 2009

خيل وبغال وحمير البريد !!..


من الحقـائق التاريخـية الهامة التي لا يمكن إغفـالها أنه كما أن البريد استفاد من تطـور وسائل النقل على مر العصـور، فأن وسائل النقل تلك ما كانت أن تتطور بهذا الشكل لولا الحاجة الملحة للبريد، فبمجرد ظهور وسيلة جديدة من وسائل النقل لا يكتفي البريد باستخدمها والاهتمام بها، إنما يساهم في تحسينها وتطورها.

فكلمة بريد كما ذكر المقريزي في كتابه الخطط أصلها فارسي من بريد ذنب، لأن الملك دارا هو أول من ابتكر نظاما للبريد، واقام له دواباً محذوف الأذناب والذيول لتميزها عن غيرها من الدواب الآخري، ثم عربت وحذف العرب نصفها الأخير واقتصرت على كلمة بريد... هذه الدواب اختلفت باختلاف العصور والاستخدامات، وارتبطت بالبريد لكونه وسيلة هامة للاتصالات عبر تلك العصور، كما أن تلك الدواب التي نشير إليها خصها الله في قوله تعالي في سورة النحل "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ".

فــأول هـذه الـدواب الخيـــل، وسمـيت خـيــــلا لاخـتــيــالها في المشــية، ولأنـهـا مـوســومـة بالعـــز، فمـن ركبــها اختــال بهــا على أعـــدائه، والفـرس قبــــل خمســمائة ســنة من الميــلاد، هـم أول من استـخـــدمها لتبلـــيـغ الأخبــار والأنبــاء، فكــان قيـروس الأكـــبر (558–528) قبل الميلاد أراد أن يكون على اتصال دائم بحكام أقاليم مملكته، فحسب بنفسه المسافات التي يستطيع أي فارس أن يقطعها في يوم واحد، وأمر بإنشاء مرابط للخيل يبعد الواحد منها عن الآخر مسافة يوم سفر، وعندما يصل الرسول إلى محطة ما حاملا معه رسالة عاجلة يخلفه زميل له مجهز بمطية جديدة... وفي اليونان القديمة استخدم الرومان الحصان والعربة بصفة منتظمة لنقل البريد، فكان البريد الرسمي المسمي "البريد الإمبراطوري" يستخدم مركبات ضخمة الحجم بأربعة عجلات ويجرها مجموعة من الخيول والبغال، وكانت تتوفر للبريد الروماني في عمليات النقل السريع عربات ذات عجلتين تسمي "سيزيا "تقطع نحو 80 كيلومتر في عشر ساعات، وكان بعض رسل البريد يتكلفون في نفس الوقت بنقل عدد كبير من الرسائل بعمليات تبادل أثناء الطريق ويحملون ردود تلك الرسائل أثناء عودتهم.

أما العرب، فيذكر ابن الكلبي في كتابه أنساب الخيل أن إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام أول من ركب الخيل من العرب، فكان اهتمامهم بالخيل عظيماً، وقد شرفها الله بأن اقسم بها في قوله تعالي "والعاديات ضبحا"، كما خصها الرسول صلي الله عليه وسلم بأن في نواصيها الخير لما كانت أصل الحروب وأوزارها وبها يجال في ميادين القتال، وجعل الله تربيتها ورباطها أمر من قوة المسلمين ومنعتهم في قوله تعالي "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ" ... والأحاديث الواردة في فضل رباط الخيل وتربيتها كثيرة، إلا أن المعلوم أن العرب استخدموا الإبل والبغال بصورة أكثر إيضاحاً في نقل بريدهم، فيذكر الأستاذ يوسف أحمد الشبرواي في كتابه القيم "الاتصالات والمواصلات في الحضارة الإسلامية" أنه عندما نظم الملك عبد الملك بن مروان الدواوين وعربها أدخل نظام البريد لربط العاصمة بالولايات والأمصار بالاعتماد على الجمال والخيل والبغال لنقل الرسائل السريعة إلى الأمصار والقادة معتمداً على محطات تستقبل الرسل وتستبدل بالجمال والخيول التعبة بأخري مرتاحة لمواصلة السير السريع دون توقف، وافرد جزء هاما من كتابه عن الجمل وصفاته وملائمته للبيئة العربية لكونه أرخص وسيلة للنقل وأكثرها تحملاً لصعوبة الصحاري والطرق الوعرة.

أما البغل فهو حيوان أليف هجين ينتج عن تزواج أنثي الخيل مع ذكر الحمار، أما الحيوان الذي ينتج عن ذكر الخيل وأنثي الحمار فيسمي النغل... والبغل حيوان معمر، قليل التعرض للأمراض، ويضرب به المثل في العقم، وكذلك لمن يفتخر بشئ لغيره، فمن الأمثال الشائعة أنه قيل للبغل من أبوك؟ قال الفرس خالي!!... والبغل يمتاز ببصره الحاد وقوته العضلية، وقدرته على تحمل حرارة الطقس، لذا يقوم بأعمال شاقة يعجز عنها الحصان، فكان يستخدم لمساعدة الجيوش في نقل المؤن والمعدات الثقيلة في المناطق الجبلية ذات الطرق الوعرة، كما أنها ذكية على الرغم من طبعها العنيد في بعض الأحيان بسبب سوء القسوة في معاملتها، فمن المؤكد أنها أذكي من الخيل، فلو أن أنثي الخيل تمتعت بما يكفي من الذكاء والعقل لما سمحت لحمار بمواقعتها... ويذكر أن الجاحظ خصص باباً في كتابه البغال تحت عنوان "باب ذكر الإنتفاع بالبغال في البريد"، وذلك بعد ما أبدع في صفاته الجسمانية والعقلية، وأورد قصصاً ونوادر وأبيات من الشعر تدل على استخدام العرب للبغال في نقل البريد.

أما الحمار فهو حيوان مستأنس من الجنس الذي يتنمي إليه الحصان، العائلة الخيلية، ويشبه شكله العام شكل الحصان، ولكن يبدو أنه حظه عاثر دائما، فالحمار رغم ما يشاع عنه بغباءه وعناده، فأنه بالتجارب العملية أثبت أنه ذكياً، حذراً، حميمياً، متعلماً، متحمساً، يصعب إرغامه أو تهديده على فعل شئ ضد رغبته، يحفظ الطريق الذي يسير فيه ولديه قدرة عالية على التحمل، وقد أستعمل الحمار من الآلف السنين في الحروب لنقل المعدات والذخائر...

وللحمار نوادر وقصص وحكايات يصعب حصرها، فمن حمار جحا الأكثر شهرة لنوادره الساخرة، لحمار الحكيم، لحمار الكاتب الساخر محمود السعدني... والحمار قد يكون أسعد حظاً باهتمام العرب بحكاياته ونوادره... كما أنه ذكر في القرآن في عدة مواضع للتشبيه، فشبه صوته بأنكر الأصوات في سورة لقمان، كما وصف اليهود الذين يعلمون ولا يعملون بالحمار الذي يحمل أسفارا تبكيتاً لهم وتحقيراً في سورة الجمعة، كما ضرب الله به المثل على الحياة والموت في قصة النبي عزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، في سورة البقرة، وكذا نجد في الرسومات المسيحية غالباً ما صور السيد المسيح وهو يركب حماراً... أما حمار البريد، فيبدو أنه كان أكثر حظاً، فقد أستخدم بصورة واسعة في نقل البريد في القري والنجوع، حتى أنه حكي لي ذات مرة أنه كان يصرف له بدل تغذية (عليق)!!.. فقد استطاع بذكائه وفطنته أن يحصل على حقوقه كاملة قبل القيام بإداء عمله !!..

هكذا نجد أن الخيل والبغال والحمير، والتي ذكرها الله في كتابه العزيز، كانت من أهم وسائل نقل البريد عبر العصور القديمة حيث سيرها الله للركوب والنقل والزينة، واليوم حلت محلها الطائرات والقطارات والسيارات بكل ما فيها من قسوة وقوة وسرعة، ولكن تلك السرعة والقوة لم تمنع الإنسان في يوم قط من استخدام وسائل النقل الأولية، التي مازالت رغم بطئها أكثر أمناً وأكثر حفاظاً على البيئة...

وللحديث بقية أن شاء الله ..

Ashraf_mojahed63@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: