الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

البريـدي الفصـيح ...


البريدي الفصيح كالفلاح الفصيح، حكاية متشابة مع اختـلاف المهـنة واختـلاف الزمـان، قصة المصري الذي أستقر على ضفاف النيـل منـذ الآف السـنين، وتأقلمه مع الاستـبداد والفساد، فالفلاح الفصيح سجله التاريخ بإبداعاته اللغـوية، وحسن تناسق كلماته، وإنسياب إفكاره، وكذلك البريدي الفصيح سـوف يسـجل كذلـك بكتاباته وحـواراته البريـدية !!..
.
والقصة التي وقعت أحداثها في العهد الأهناسي(الأسرة التاسعة 2160-2130) والذي كان أسوأ العصور الفرعونية إستبداداً، إذ غابت العدالة الاجتماعية وعم الفساد بين كبار موظفي الدولة، أن فلاحاً من أهالي مقاطعة الفيوم من إقليم وادي النطرون، كان يقطن بقرية تسمي حقل الملح، تبين له أن مخزن غلال أسرته أشرف على النفاد، فحمل قطيعاً صغيراً من الحمير بحاصلات قريته وسار به نحو مدينة أهناسية، يريد استبدالها بغلال تكفي أسرته بقية العام، وكان يتحتم عليه أن يمر بمنزل موظف صغير من موظفي أحد الأشراف... وأثناء سير الرجل بالقطيع التقم أحد الحمير بضع سيقان من جذور القمح، فاتخذها هذا الموظف ذريعة لكي يصادر تلك الحمير، فاحتج هذا الفلاح الطيب وقال أنا أعرف رب هذه الضيعة، فهي ملك مدير البيت العظيم وأعرف أنه هو الذي يقضي على كل سارق، فهل أسرق في ضيعته ؟!..رغم ما تعرض إليه من إهانه وضرب بدون رحمة أصر على رفع شكواه إلى مدير البيت العظيم.
.
تقدم الفلاح الفصيح بشكاواه بأسلوب أدبي خلاق، تعد من أروع القطع الأدبية والبلاغية على مر التاريخ المصري القديم، حيث شعر هذا المدير بسرور عظيم من بلاغة هذا الفلاح، البادية في حسن منطقه وفصاحة لسانه، حتى أنه تركه دون أن يقطع في قضيته برأي، وذهب إلى الفور إلى الملك وأطلعه على ما قاله هذا الفلاح الطيب، فسر الملك سرورا عظيما وكلف مدير البيت العظيم أن يصحب الفلاح معه دون أن يقطع في قضيته برأي رغبة في أن يرتجل له الفلاح خطـبا أخري أيضـاً، وأمر الملك بتدوين أقـواله بدقة وأن يقـدم له الطعـام والشراب وكل مايلزمه حتى يتم مهمته.
.
تسع شكايات تمثل إبداعاً أدبياً ألقاها هذا الفلاح الفصيح حتى وصل لمرحلة اليأس من مدير البيت العظيم والملك، أراد أن يذهب ليبث شكاواه إلى "آنوب" أي إله الموتي، كناية عن مقصده بأنه سوف ينتحر.. وعندئذ يتدخل الملك فيأمر بعقاب الظالم وإعادة كل الممتلكات المغتصبة إليه، وذلك بعد أن دون في بردية جديدة كل شكايات هذا الفلاح بحسب ترتيبها، والذي وصفها هذا الملك بأنها أحب إلي قلبه من أي شئ في كل البلاد..
.
القصة في نهايتها قد تكون سعيدة بالنسبة للفلاح الفصيح، كأول متظاهر في التاريخ يحصل على حقه، حيث أعيدت له ماشيته وممتلكاته، وعوقـب الجـاني، وهو ما كان يصـبو إليه ويسعه من أجـله ... أما البريدي الفصيح فلا يستطيع إعـادة ما سلب منه لأنها في الواقع أمراً غير محسوس، أمراً شعورياً في وجدانه وأحلامه، بتصحيح أوضاع عفنه، استشرت رائحتها الكريهة... لم يستطع مواجهة هذا الطوفان من الطغيان والاستبداد، تركهم لعله يجد ضآلته في أدبياته وسطور كلماته التي يعبر فيها عن حزنه وأسفه لأنه لم يستطع أن يكون مثل جده القديم، الذي أصبح أول متظاهر يحصل على حقه ونموذجاً ومثالا للمصري بمعدنه الحقيقي، المصري الفصيح...
.
وللحديث بقية أن شاء الله ...
Ashraf_mojahed63@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: