الأربعاء، 22 سبتمبر 2010

مقهي الشارع البريدي !!..


مبني البريد المصري بميدان العتبة، يعد أحد أبرز علامات تراث القرن التاسع عشر المعماري، وواحد من أربعمائة وعشرين مبني تزخر بهم مدينة القاهرة التي حلم بها الخديوي إسماعيل، والتي كان يطلق عليها "باريس الشرق"، هذا الحلم أصبح حقيقة بعد خمس سنوات من تكليفه للمهندس الفرنسي هاوسمان، لإبتكار طراز معماري جديد يجمع بين الشكلين الأوروبي والإسلامي. والمبني مساحته تبلغ 4460 مترمربع، ويتخذ شكل شبه منحرف، تحتل واجهته الرئيسية القاعدة الكبري، وهو مكون من طابقين، ويحمل أعلي واجهته الرئيسية قبة كبيرة، على رأسها ساعة، تماثلان قبة وساعة جامعة القاهرة. ويطل من جهة على مبني مطافي القاهرة، والجهة الأخري على شارع يعرف بشارع البيدق... هذا الشارع الذي أصبح الآن سوقاً تجارياً لتجارة أدوات الإنارة والكهرباء ويمتلئ بالباعة الجائلين، وعربات الفول والفلافل والكبده والكشري، وغيرها من المأكولات الشعبية، يحتضن كذلك مبني الطرود الذي أصبح مقراً للبريد السريع المصري، ومبني آخر لموظفي البريد يعرف بعمارة البيدق.
.
وشارع البيدق رغم ضيقه يحوي بين جانبيه ثلاث مقاهي، أصبحت مقصداً للعديد من العاملين بالبريد، سواء القادمين من محافظات الدلتا أو الصعيد لمقابلة أحد المسئولين أو التقدم لوظيفة ما أو لإنهاء بعض المعاملات المتعلقة بمنطقته البريدية، ومقصداً يومياً للعديد من العاملين بالإدارة العامة... ورغم أن منطقة العتبة أشتهرت منذ القرن السادس عشر بتلك المقاهي، عندما أدخل أبو بكر بن عبد الله المعروف بالعيدروس شرب القهوة إلى مصر فأحبها الناس وسموها مكاناً لتجمعهم لشربها واحتساء النرجيلة وسماع ما يحكيه الراوي من قصص شعبية وملاحم بطولية... وخلود بعض تلك المقاهي في ذاكرة التاريخ كقهوة متاتيا التي كان من أبرز روادها السيد جمال الدين الأفغاني والأمام محمد عبده وسعد زغلول وعباس محمود العقاد، ومقهي القزاز التي كانت مقراً لأهل الريف حينما يأتون إلى القاهرة لقضاء مصالحهم، أو مقهي التجارة التي تحتضن الفرق الموسيقية ورواد الموسيقي، ومقهي الكتبخانة التي كان من أبرز روادها الشاعر حافظ إبراهيم والشيخ عبد العزيز البشري، ومقهي المختلط نسبة للمحكمة المختلطة وروادها من المحامين وأصحاب القضايا، وغيرها من المقاهي الشهيرة المنتشرة الآن بالقاهرة كمقهي الفيشاوي ومقهي ريش وقشتمر وعرابي وبعرة وغيرها... إلا أن تلك المقاهي الثلاثة بشارع البيدق أصبحت خلال فترة وجيزة المطبخ الخلفي للعديد من التراتيب المتعلقة بالعمل بالبريد المصري... فكلما مررت على تلك المقاهي الثلاثة صباحاً أو بالظهيرة أو بعدها تجد العديد من العاملين بالبريد المصري، خاصة ممن يشغلون مناصب قيادية أو ممن كانوا يشغلون مناصب قيادية وبلغوا سن المعاش، ومازال لهم تأثير أدبي ومعنوي على مجريات العمل داخل الإدارات البريدية...
.
دائماً ما كنت أشاهد بعض تلك الشخصيات البريدية تجلس ضمن حشد من مرؤسيها، يستمعون إليه ويتأمرون بأوامره وهو قابضاً يدخن الشيشة، وكأنها علامة من علامات القيادة... ولأنني لست من محبي تلك الجلسات، وغير مبالاً بحكاوي القهاوي، فقد كنت أسير سريعاً بحيث لا ينتبه أحد لمروري، حتى أتي ذلك اليوم الذي رأني أحد المديرين الكبار وأراد أن يلقني درساً بريدياً خاصاً، وقد تعاملت معه في عدة مواقف في العمل أغضبته في بعض الأحيان وساعدني أحياناً في حل بعض المشاكل التي أبتليت بها خلال عملي... بيننا احترام متبادل، مع فارق السن والخبرة التي أكتسبها عبر أربعين عاماً بالعمل في البريد المصري حتى وصل لتلك المرتبة الوظيفية العليا.
.
أراد أن ينصحني ويعلمني ويرشدني، وقد شارف على سن المعاش، وأعتقد أنه يكن لي بعض الأحترام والمحبة، ولكنه لم يستطع البوح بكل تلك المشاعر... سمعته يناديني من على تلك المقهي بصوت مرتفع، فتوجهت إليه على الفور وألقيت عليه التحية وسلمت علي الحضور ممن حوله وجلست لبضعة دقائق كانت ضرورية لسماع نصيحته البريدية ودرسه الذي تعلمه على مدار عمله المتدرج بالبريد المصري... حكى عن طريقة اختيار القيادات والمديرين بالبريد المصري، فقال إذا كان لدينا موظف لديه معرفة متقنة بالعمل وعنده من المهارة في إنجاز المهام التي يكلف بها، وعنده القدرة على تطوير وتحسين العمل بنسبة 90% ، ولكنه يناقش رؤسائه، ويختلف معهم، ولا ينفذ إلا صحيح ما يراه... وآخر لا يجيد العمل ولا يعرف إلا ظاهره وغير مكترث بتطويره وتقدمه إلا بنسبة 10%، ولكنه حريص كل الحرص لإرضاء رؤسائه داخل وخارج نطاق العمل، ينفذ ما يطلب منه دون تفكير أو تردد... فمن تختار ؟!... على الفور كانت الأجابة الثاني طبعاً، لأننا في البريد المصري!!... تفهمت مقصده على الفور، وما يصبو إليه من تلك الرواية، شربت كوباً من الشاي الساخن وانصرفت بعد أن ألقيت عليه التحية والدعاء له بالتوفيق ودوام الصحة، حيث شارف على بلوغ سن المعاش، وأراد أن ينصحني بتلك الكلمات، بغية اللحاق بالركب، ونيل الرضا من رؤسائي.
.
هذه وصيته الأخيرة لي وما أرادني أن أتعلمه وأتفهمه، بيد أن حكاية أخري أصبحت ذات تأثير أكبر وأقوي من وصيته، حكاية تشبعت بداخلي وأصبحت لا أستطيع الانفكاك منها، أخذتها نبراساً لحياتي، وأعلمها لأبنائي، ولا أخجل من التمسك بها، حكاية رجل يدعي إبراهيم بك شفتر، رئيس الجمعية المصرية لهواة طوابع البريد، الذي استطاع بمهارة فائقة أن يرتب لإنعقاد أول معرض طوابع بريد دولي في القاهرة عام 1946، وقام بافتتاحه الملك فاروق، الذي أنعم عليه برتبة البكوية لأعجابه الشديد بمهارة ودقة هذا الرجل.. إلا أن إبراهيم بك شفتر كرئيس منتخب لتلك الجمعية رفض فيما بعد تسليم الملك مجموعة من الطوابع تم طباعتها بطريق الخطأ لصورة الأميرة فريال، وأصر على إعدامها استناداً إلى اللوائح والاتفاقيات الدولية، التي تسمح له كرئيس لجمعية هواة الطوابع بالإشراف على إعدام الطوابع التي تم طباعتها وتكون بها أخطاء مطبعية لأنها من الأمور التي تشين أي هيئة في العالم، متحدياً رغبة الملك فاروق في الاحتفاظ بتلك الطوابع النادرة والتي تم طباعتها وبها أخطاء كثيرة.. إلا أن هذا التحدي قابله غضب شديد من الملك فطلب من عبود باشا رئيس مجلس إدارة شركة السكر التي كان يعمل بها إبراهيم بك شفتر كأحد كبار موظفيها، أن يصدر أمراً بنقله للعمل في كوم أمبو في أقصي صعيد مصر، وبالتالي أجبر على تقديم استقالته من الجمعية المصرية لهواة طوابع البريد، وتولي نائبه أحمد مظلوم باشا رئاسة الجمعية.
.
طبعـاً لم استطع ذكر تلـك الرواية أمـام الحضـور في ذلـك المقهي، رغـم إيمـاني وقنـاعتي بأن الإقـدار تتدخـل دائمـاً لرسم طـريق البشر، ولكن الإنسـان لن يكـون إنساناً مالم يرضـي ضمـيره وإنسـانيته، حتى لو ظــل موظفــاً بالبريـد المصـري بمكـتب بريـد كـوم أمبو!!...
.
وللحديث بقية أن شاء الله ...

ليست هناك تعليقات: