السبت، 14 أغسطس 2010

الصحافة البريدية ...


ثمة علاقة وثيقة تربط مهنة الصحافة بالبريد، فمنذ النشأة الأولي لصاحبة الجلالة وهي تعتمد اعتماد كبيراً على الخدمات البريدية، حتى جاء الوقت الذي صارت فيه العلاقة بينهما علاقة عكسية، فصاحبة الجلالة تري البريد الآن تراثاً تاريخياً، فالهاتف والفاكس والانترنت، وشركات توزيع الصحف، جعلت الخدمات البريدية بالنسبة لها ماضياً لا رجعة فيه... بينما أصبح البريد في حاجة للصحافة للتعريف بخدماته، ونشر أخباره، وإيضاحه دوره المجتمعي وإبراز نشاطه ونشاط رؤسائه وقياداته...
.
فكما هو معلوم أن البريد نشأ منذ نشأت المجتمعات الإنسانية وحاجة الإنسان الملحة بالاتصال بين بني جنسه في مختلف أرجاء الدنيا، أما الصحافة الحديثة فقد نشأت في أوروبا في العصور الوسطي في شكل رسائل إخبارية منسوخة تروي أخبار الملوك ومن يحيطون بهم من نبلاء وحكام للولايات، خاصة في حالات الحروب والنازعات المختلفة... فالبذور الأولي للصحافة كانت تتناول موضوعات سياسية واقتصادية تحتكرها الحكومات لأغراض السلطة والسيطرة على مقاليد الحكم، ولذا كان رجل البريد ذو مكانه مميزة، أشبه كثيراً بالسفراء ورجال الدولة...
.
هذه العلاقة ظهرت بوضوح في مدينة البندقية الإيطالية، التي كانت سباقة في إنشاء العديد من المكاتب الإخبارية التي يشرف عليها كتاب الأخبار أو المخبرون بتدوينها وبيعها بالتوزيع على عدد محدود من المشتركين بواسطة موزعي البريد، ثم جاء الأخوة فوجرز وهما من أشهر المخبرين والمتخصصين في أعمال المصارف واتخذوا من مدينة أوغاسبرج مقرا لهم، وفتحوا فروعا في لندن وباريس وغيرها من العواصم الأوربية... وتحول النشر الصحفي من الأخبار الاقتصادية والتجارية إلى الأخبار السياسية والاجتماعية، والتي أصبحت رسائلهم ذات قيمة جوهرية لرجال الأعمال والسياسة في ذلك الوقت... وهكذا ظلت تلك المكاتب الأخبارية توزعا بريديا على الطبقة البورجوازية والطبقة الحاكمة حتى تم اختراع الطباعة، وظهرت بدايات النشر الصحفي والتوزيع البريدي الواسع النطاق لها.
.
وخـلال فترة وجيزة وعلى أثر اختراع الطباعة ارتبط صدور الصحف بانتظام الخدمات البريدية، حيث كان لانتظام توزيع البريد ثلاث مرات أسبوعيا سبباً رئيسياً في إنتشار الصحف، حتى أن معظم الصحف كانت تحمل أسم البريد مثل البريـد الطـائرFlying Post والبريد الأسبوعي Weekly Messenger والبريد المسائي Evening Post ... وتوثيقاً لهذه الصلة ارتبط صدور بعض الصحف برجال البريد، فنجد جون كامثبيل، مدير البريد في بوسطن الذي أصدر أول صحيفة أسبوعية "بوسطن نيوزليتر" عام 1704، وبنيامين فرانكلين أول مدير عام للبريد في فيلادلفيا أصدر صحيفة "بنسلفانيا جازيت" عام 1721... وعلى الرغم من أن نشأة الخدمات البريدية بصورتها الحديثة وانتظامها كان نعمة على الصحافة الإخبارية، إلا أنه كان يعيب ذلك أن بعض المسئولين في البريد كانوا يحتكرون الأخبار الخارجية، ويتقاضون إتاوات نظير الحصول على تلك الأخبار، وكان البعض منهم يرتشون مقابل تفضيل بعض الصحف على غيرها وإعطائها الأولوية في تسليم الأخبار...
.
ورغم تأخر الصحافة العربية عن الصدور حتى العقد الثاني من القرن التاسع عشر، حين أصدر داود باشا أول صحيفة عربية في بغداد عام 1816 باسم "جورنال عراق" باللغتين العربية والتركية، ثم أتبعها إصدار محمد علي باشا صحيفة "الوقائع المصرية" في عام 1828، والتي أعقبها صدور العديد من الصحف باللغة العربية في مختلف البلدان العربية، كالمؤيد والسياسة والبلاغ والأهرام، إلا أنها استفادت من التطور الهائل في أساليب الطباعة والنسخ التي أتقنتها الصحف الأوروبية، وكانت تلك الصحف تعتمد بشكل كبير على الخدمات البريدية في توزيعها، خاصة أن معظم تلك الصحف كانت ذا طابع رسمي وخاضع للحكومات المركزية.
.
ظل حال الصحف في الاعتماد بشكل رئيسي على الخدمات البريدية، إلى أن ابتدع صاحب صحيفة The New York Sun ويدعي داي عام 1833 شكل جديد للصحافة بالاهتمام بالأخبار المحلية والقصص الصحفية ذات الجوانب الإنسانية وبالجرائم والقصص البوليسية، ودفعه لزيادة توزيع صحيفته الاستعانة بالصبية الصغار، والتي وصل توزيعها لنحو الفي نسخة بعد شهرين فقط من صدورها، ثم قفز هذا العدد في عام 1837 لنحو ثلاثون ألف نسخة بفضل جذابية الصحيفة والطريقة المبتكرة لعملية التوزيع، مما دفع بشدة لإنشاء شركات متخصصة لتوزيع الصحف، والتي انهت بصفة نهائية على الاستعانة بالخدمات البريدية في توزيع الصحف داخلياً، بينما ظلت بالاستعانة بها في التوزيع خارجياً حتى أوائل الثمانيات بانتشار إصدار الصحف دولياً عن طريق الفاكس وطبعها طبعات دولية.
.
مع بداية التسعينات ودخول عصر الانترنت والصحافة الإلكترونية وتقلص توزيع الصحف الورقية بصورة كبيرة، والتي صاحبها تهديد لكثير من الصحف بالإغلاق، انتهجت إدارات تلك الصحف، خاصة الحكومية منها بالبحث عن بدائل لتمويل يغطي التزاماتها المعهودة في السوق... هذه البدائل كانت مرتكزة بالأساس على زيادة المساحات الإعلانية والتوسع في الصحافة الإعلانية والتحرير الصحفي المدفوع الأجر، واللقاءات والتحقيقات التي من شأنها تدر أموالاً لتغطية عجز مواردها، وهو ما وجد رواجاً واستحساناً من بعض الهيئات والوزارات التي حققت بعض الطفرات المالية في الأوانة الأخيرة، ومنها البريد المصري على وجه الخصوص.
.
فالبريد المصري خلال العشر سنوات الأخيرة وبتحقيقه تلك الطفرات المالية، أصبح محور جذب وانتباه من قبل بعض الصحف، خاصة الحكومية والتي رأت فيه مغنماً أو مخرجاً لجزء من أزمتها المالية، صاحب ذلك هوي بعض الرؤساء بالبريد المصري والطامحين لمناصب قيادية أرفع بالدولة، وهو ما حدث بالفعل بارتقاء وزيرين من رحم البريد المصري وبمساندة وبمباركة كاملة من بعض الصحف !!... وصحيفة الجمهورية على سبيل المثال ذات اهتمام خاص بكل ما يحدث في البريد المصري من إنجازات وتطور وازدهار، واللقاءات والحوارات والمساحة الإعلانية المتاحة للبريد، وبرتوكول التعاون الثقافي الموقع بين دار التحرير والبريد المصري بتاريخ 18/5/2010 يمثل نموذج لهذا الأفق الجديد!!..
.
كما أن ثمة مرتكزاً آخر لاستراتيجية تلك الصحف لتحسين مواردها، وذلك بالعمل على إرتقاء أعضائها ومؤائمة مواردهم المالية المتنامية بهذا التفاعل بتشغيل بعضهم كمستشارين إعلامين بمختلف الهيئات والوزارات، على غرار المستشارين القانونين القادمين من بعض الهيئات القضائية ووزارة العدل، مما يقلل من كاهل تلك المؤسسات الصحفية...
.
العـلاقة الآن أصبـحت مجـرد استرزاق وتبــادل منافـع شخصية... هذه العـلاقة ما كانت تظهر بتـلك الصـورة إلا من جـراء تحـول في الحـالة الاجتماعية المصرية، حـال الكـلام والكـلام الكثـير دون الفعل، لاسيما لو كـان ذلـك على ورق الصحـف!!..
.
وللحديث بقية ..
Ashraf_mojahed63@yahoo.com

ليست هناك تعليقات: