السبت، 19 أبريل 2008

الاتحاد البريدي العالمي ..


يعد الاتحاد البريدي العالمي من أعرق المنظمات الدولية المتخصصة www.upu.int فمنذ أن عرفت المجتمعات الإنسانية التواجد، كان لتوثيق أواصر الصداقة وتمكين التفاهم بين تلك الشعوب، وتوسيع ونشر الثقافات وغيرها من الأسباب التي خرجت بتلك الأمم من عزلة القرون الأولي أن يتعدى تبادل المراسلات حدود البلد الواحد إلى البلدان الأخرى .
.
ومنذ القدم والقائمون على أعمال البريد يبحثون عن وسيلة مأمونة لنقل البريد بانتظام بين بلد وآخر.. وكانت الحاجة أكثر أهمية بالنسبة للبلدان الأوروبية، حيث توجد مجموعة من الأمم الناهضة التي لا تفصل بينها بحار أو محيطات، لذلك كان من الطبيعي أن تظهر في أوروبا دون غيرها مؤسسة لتوحيد النظم البريدية والإسهام في حل المشاكل الناجمة عن اتساع التبادل البريدي بين البلدان المختلفة .

أوروبا وتنظيم البريد الدولي

كانت أسرة "دي تاكسيس" المشـهورة في تاريخ البريد تتولى نقل البريد داخل الإمبراطورية النمساوية منذ عام 1440م، ثم ما لبث أحد أبنائها "فرانسوا دي تاكسيس" أوائل القرن السادس الميلادي من تأسيس إدارة للبريد الدولي قامت بتنظيم عملية نقل البريد بين الحكومات والأفراد فيما بين النمسا وكل من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا .
.
وظلت هذه الإدارة تواصل أعمالها بنجاح حتى استولت عليها الحكومة الروسية عام 1867م، فكان لها بذلك مصير جميع المؤسسات البريدية الخاصة من قبل الحكومات المركزية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر الميلادي، على أساس أن أعمال البريد يعد من الأعمال السيادية ويحقق منافع عامة للدولة ، كما أنه يعد مورداً للدخل لا بأس به .. فاهتمت تلك الحكومات بتوسيع نطاقه وأدخلت أنظمة التسجيل والخطابات المؤمنة والحوالات المالية ونظمت توزيع البريد في المدن والقرى .
.
بيد أن طريقة المحاسبة بين الدول المختلفة على المراسلات المتبادلة فيما بينها ظلت محفوفة بالمصاعب ، نظراً لاختلاف الرسوم البريدية بين بلد وآخر ، فقد كانت بعض الإدارات البريدية تحصل الرسم على أساس وزن الخطاب، وبعضها يحصله على أساس الحجم أو السمك ، وكان للمسافة وبلدان المرور في كل حالة تقدير خاص .. ولم تفلح المحاولات التي بذلت على مر الأيام لتحسين الخدمة بتطبيق مبادئ موحدة من خلال الاتفاقات الثنائية في الوفاء بالاحتياجات المتزايدة نتيجة التقدم السريع للعلاقات الدولية بين تلك البلدان .

تأسيس الاتحاد

باكتشاف العالم الجديد وظهور الولايات المتحدة الأمريكية وحاجة سكانها الملحة في الاتصال بأوطانهم الأم بأوروبا، دعا وزير البريد الأمريكي "مونتجمري بلير" إلى اجتماع دولي للتوصل إلى اتفاق بريدي على أسس مشتركة، وبالفعل ما لبث أن عقد هذا الاجتماع في باريس في مايو 1863م بحضور مندوبو خمسة عشر بلداً من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية .. حيث أقر الاجتماع عدداً من المبادئ العامة وأوصي الإدارات بمراعاتها عند إبرام اتفاقياتها الثنائية فيما بينها ، فكانت قراراته مناراً اهتدت به البلدان في المعاهدات البريدية التي أبرمتها بعد ذلك .
.
كما كان هذا الاجتماع دافعاُ قوياً لأحد كبار الموظفين في إدارة بريد اتحاد ألمانيا الشمالية "هنري دي ستيفان" أن يرسى عام 1868م أسس مشروع اتحاد بريدي فيما بين الأمم ، واقترح على حكومته أن يعرض هذا المشروع على بساط البحث في اجتماع يضم مندوبين مفوضين .. وبدعوة من حكومة سويسرا عقد هذا الاجتماع في 15 سبتمبر 1874م بحضور مندوبين مفوضين من قبل عشرين بلداً من أوروبا بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومصر.
.
واختتم هذا المؤتمر أعماله بتوقيع معاهدة برن 1874م، والتي تضمنت أول اتفاقية جماعية لتنظيم الخدمة البريدية الدولية ، وتأسيس الاتحاد البريدي العام، وحدد أول يوليو 1875م كتاريخ لبدء تنفيذ هذه الاتفاقية ..وبعد ثلاث سنوات من الاجتماعات المتواصلة وانضمام العديد من البلدان الأخرى أضفي على الاتحاد صفة العالمية فأضحي يسمي "الاتحاد البريدي العالمي".

الاتفاقية وتنظيم أعمال الاتحاد

أرست تلك الاتفاقية عدد من القواعد الأساسية كضمان حرية العبور للإرساليات البريدية ، ذلك باعتبار أن جميع البلدان الأعضاء يمثلون منطقة بريدية واحدة ، كما أنها وضعت إجراءات تحكيم لتسوية المنازعات بين الإدارات البريدية .
.
لضمان انتظام سير أعمال الاتحاد تم الاتفاق على إنشاء ثلاثة أجهزة هي :
المكتب الدولي : وهو جهاز دائم مقره العاصمة السويسرية برن، ويعمل كأمانة عامة للاتحاد ومهمته الرئيسية نشر وتوزيع المعلومات الخاصة بالمعاملات البريدية بين البلدان الأعضاء وإبداء الرأي فيما يقع حوله خلاف بين الإدارات التي تحتكم إليه، وكذلك دراسة الاقتراحات الخاصة بتعديل الاتفاقات البريدية.. وغيرها من الأعمال التي تسهم في توحيد الأعمال البريدية للعمل بنظام موحد يجعلها تسير في منظومة واحدة متكاملة .
مجلس الإدارة : وهو جهاز دائم يتكون من واحد واربعين عضواُ منتخباً على أساس جغرافي، يزاولون وظائفهم خلال المدة التي تفصل بين مؤتمرين متتابعين، يجتمع مرة كل عام في مقر الاتحاد ويقوم بدور ثلاثي فهو في آن واحد مجلس إدارة مكلف بضمان حسن سير الاتحاد ولجنة يكلفها المؤتمر بإجراء الدراسات وعرض التقارير بشأنها أمام المؤتمر العام وهو أيضاً جهاز تشريعي مختص في تحديد النظم التنفيذية وتعديلها .
مجلس الاستثمار: وهو جهاز دائم يتكون من أربعين عضواً منتخباً على أساس جغرافي، يزاولون وظائفهم خلال المدة التي تفصل بين مؤتمرين متتالين يجتمع مرة كل عام في مقر الاتحاد، وتكمن مهمته في دراسة المشاكل الفنية والاستثمارية والاقتصادية المتعلقة بالتعاون الفني الأكثر أهمية والمفيدة بالنسبة لجميع البلدان الأعضاء بالاتحاد، ووضع الآراء والحلول بشأنها .

الاتحاد والمنظمات الدولية الأخرى

منذ نشأة الاتحاد عام 1874م عقد نحو ثلاثة وعشرون مؤتمراً بصفة منتظمة كان آخرها مؤتمر بوخارست 2004م .. إلا أن مؤتمر باريس 1947م كان أهمها، حيث تقرر فيه توقيع اتفاقية تعترف بموجبها منظمة الأمم المتحدة بالاتحاد البريدي العالمي باعتباره المؤسسة المتخصصة المكلفة باتخاذ كافة التدابير المطابقة لوثيقته الدستورية لبلوغ الأهداف التي حددها لنفسه في هذه الوثيقة .. ومنذ ذلك التاريخ يعمل الاتحاد كمؤسسة متخصصة ضمن المجلس الاقتصادي والاجتماعي بمنظمة الأمم المتحدة، وتطبق عليه الاتفاق الخاص بمزايا وحصانات الأمم المتحدة سواء على أجهزة وموظفي الاتحاد أو ممثلي الدول الأعضاء والخبراء.
.
يدور تعاون الاتحاد البريدي العالمي مع منظمات الأمم المتحدة المختلفة من خلال لجان اتصال يؤسسها المجلس التنفيذي للاتحاد مع تلك المنظمات وذلك للتنسيق والتشاور للمسائل الجوهرية التي تقع في نطاق الأنشطة والتعاون الفني .. ويظهر ذلك بجلاء وكمثال للتعاون المثمر والدائم بين الاتحاد والاتحاد الدولي للنقل الجوي ومنظمة الطيران المدني، حيث تحتل مسائل البريد الجوي مكاناً هاماً في ظل الاعتماد الكلي على الطائرات في نقل الإرساليات البريدية .

الاتحاد وآفاق المستقبل

قد أدرك الاتحاد البريدي العالمي مهمته إزاء تعدد المشاكل التي طرأت من انضمام عدد كبير من البلدان النامية ، وتحول مهام البريد كقطاع خدمي إلى قطاع استثماري ، فكان لزاماً عليه أن يتجـاوز النطاق النمطي المحدد له بصفة تقليدية ليمنح عناية خاصة للاحتيـاجات الملحة للبلدان النامية وذلك بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية لإدارة المشاريع التي يمولها بهدف تنمية وتطوير خدمات الإدارات البريدية بتقديم المعونة الفنية ومنح التأهيل والتدريب اللازمين ، واستكمال المعلومات المهنية والفنية لتلك البلدان.
.
يمكن القول أن نجاح الاتحاد البريدي العالمي في الاستمرار في مهامه الدولية كأعرق منظمة دولية متخصصة يرجع إلى أن المهمة التي يضطلع بها هي مهمة تقنية بالأساس، وأن الهدف الإنساني السامي الذي ينشده وهو خدمة الجمهور بتحسين طرائق الاستثمار فيه تحسيناً مضطرداً، كما أن التوسع في أعماله لم يجد الصعوبات التي يمكن مقارنتها بتلك التي تصادفها منظمات دولية أخرى ، وأن صفة العالمية وتعاونه مع العديد من المنظمات الدولية لا تتعارض مع مصالح البلدان الصناعية المتقدمة التي يعنيها بدرجة كبيرة تقدم وتحسن الخدمة البريدية في البلدان النامية .
.
وللحديث بقية ....

ليست هناك تعليقات: