الجمعة، 18 أبريل 2008

البوسطجي الإلكتروني ..


يمكن القول أن أساس كلمة بوسطجي ترجع لخليط من لغتين من كلمة بوست ، وجي ... فكلمة "بوست" قيل أنها ترجع لأصول يونانية قديمة من كلمة Baredos أو أصول لاتينية من كلمة Vareidus، وقيل أيضاً أنها كلمة رومانية الأصل وكانت تطلق على الحظيرة وهي مكان استراحة الخيول والدواب، حيث أعتمد في السابق على نقل البريد بواسطة العربات والخيول التي تجرها .. وقيل كذلك أنها كلمة فارسية وتعني البريد على أساس أن الفرس أول من عرفوا النظم البريدية ... و" جي " حرفان من قواعد اللغة التركية يغيران معني الكلمة عند ارتباطهما بآخرها، فتعني المهنة، وقد إدخلت في اللغة العامية العربية خلال عهد الأتراك العثمانيين ..
.
فإذا البوسطجي هو الذي يقوم بمهنة توزيع البريد ، والجواهرجي هو من يقوم على صناعة الجواهر والصياغة ، والقهوجي الذي يقوم بالعمل في المقاهي ... وهكذا انتقلت كلمة البوسطجي من الغرب إلى لغتـنا العربية وأخذنا نستخدمها في مفرداتنا اليومية، كما استخدمنا كلمة بريد سابقاً، فنجد على سبيل المثال الأغنية الشهيرة للمطربة رجاء عبـده " البوسطجية أشتكوا من كتر مراسيلي" حيث تعتبر عرابة اغنيات البوسطجية في الوطـن العربي، وأغنــية فيــروز "ع هدير البوسطة"، والفيلم الشهير "البوسطجي" الذي يعتبر من أفضل مائة فيلم قدمتها السينما العربية، وأيضاً هناك فيلماً لبنانيا يتحدث عن الحرب الأهلية في لبنان يحمل عنوان "البوسطة".
.
البوسطجي الذي استمد هيبته علي مدار التاريخ من حيث كونه حامل البشارات والنذر فهو أحدى الشخصيات التاريخية، والتي تحولت حالياً الى شخصية فولكلورية .. قديما كان يسافر على جواده حاملا الرسائل من الملوك الى الملوك، أو حاملا نذر الحرب، أو حاملا العطايا والجزية، أو قادما من الباب العالي الى باقي دول الخلافة .. ومع ظهور طوابع البريد والطائرات والقطارات أصبحت مهمته قاصرة على التنقل داخل البلد، يحفظ شوارعها وبيوتها يعرف أولادها وبناتها ورجالها ونساءها بالاسم، فهو ملك الشارع بلا منازع، الذي يعرفه الناس ويتنظرونه في الفترات العصيبة، يحبونه إحياناً إذا ما أتي إليهم بالأخبار السارة، ويكرهونه أحياناً إذا ما جاء بالأخبار السئية ... يتهمون دائماً بالفضول والتلصص على أخبارهم.
.
كما أن شخصية البوسطجي ذخرت بالاهتمام من قبل الأدباء والشعراء، فالكاتب الراحل يحي حقي في قصته "دماء وطين" والتي تحولت إلى فيلم البوسطجي عام 1968 والذي قام بإخراجه المخرج الراحل حسين كمال وبطولة شكري سرحان وزيزي مصطفي وصلاح منصور يمثل منعطفاً تاريخياً لمهنة البوسطجي، حيث أظهر الفيلم البوسطجي "عباس افندي" والذي ينتقل من العمل بالقاهرة إلى العمل بقرية بصعيد مصر تسمي كوم النحل بصورة مخجلة بملابسة الحكومية الرثة، ومن كونه كان يعاقر الخمر ويتصفح المجلات الإباحية، وشغوف بالتلصص على الخطابات الصادرة والواردة لمعرفة أخبار أهالي القرية .. وفي نهاية الفيلم يعود "عباس أفندي أو شكري سرحان" الى القاهرة بعد أن يقوم بإلقاء عشرات الخطابات في الهواء مما يوحي للمشاهد بان تلك الجريمة سوف تتكرر كثيرا... كل ذلك أظهر وظيفة البوسطجي بمظهر أصبح متجذر في العقول بأنه غير مؤتمن على ما يحمله من رسائل وخطابات ..
.
ويذكرأن أشهر من عمل بوسطجيا، هو والد الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، والكاتب الروائي الكبير إبراهيم اصلان، حيث كتب عن فترة عمله رواية بعنوان «وردية ليل» .
.
وسيظل البوسطجي محفوراً في ذاكرة التاريخ رغم ما يعانيه الآن أصحاب المهنة من تقلص دورهم والشعور بذهاب ملك أجدادهم الغابر بسبب الهجمة الشرسة لوسائل الاتصالات الحديثة بتعدد أشكالها وتنوع أساليبها من هواتف محمولة وأنترنت ، فالبريد الإلكتروني أو ما يسمي في لغة الأنترنت "الإيميل" الذي يحمل بين طياته كماً كبيراً من الرسائل تتفاوت بين الوعظ الديني والإباحية المفرطة قائمة البريد الأكثر استخداماً وشيوعاً في عالمنا المعاصر، وخاصة بين شريحة كبيرة من الشباب، ناهيك عن كونه الآن الوسيلة الأكثر يسراً في مجالات العمل المختلفة، مما دعا مؤسسات البريد في محاولة لتعزيز دورها ومكانتها بتقديم خدماتها الجديدة كخدمة البريد الإلكتروني وخدمات الجيرو ... كما أن استحداث نظام الرقائق الإلكترونية التي تجتاح العالم سوف تحل مستقبلا محل طابع البريد وتضمن وصول الرسائل والطرود إلى العناوين بشكل أسرع وأرخص ..
.
ورغم أننا لن نمل من مشاهدة فيلم البوسطجي أو سماع أغنية "البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي" إلا أن البوسطجية لم يشتكوا بعد الآن بعد أن صرعتهم وسائل الاتصال الحديثة بالضربة القاضية ..
.
وللحديث بقية أن شاء الله ...

ليست هناك تعليقات: