السبت، 19 أبريل 2008

ابن البوسطجي ..


هل تعرفون من هو ابن البوسطجى ؟..
هو الزعيم الراحل "جمال عبد الناصر" ... والبوسطجى هو والده "عبد الناصر حسين خليل سلطان" !!
.
كل الناس تعرف جمال عبد الناصر، ولكن قلة قليلة يعرفون والده، هذا الرجل الذي نعت أبنه ذات يوم بابن البوسطجي للدلالة على فقره وضعف مستواه الاجتماعي، على الرغم من أنه كان لا يعمل بوسطجي بالشكل التقليدي المتعارف عليه بالقيام بتوزيع الخطابات، بل كان وكيلاً لمكتب بريد باكوس بالإسكندرية... ويكفيه فخراً أنه أنجب لنا هذا الزعيم الذي حرر العقول العربية من استعمار أجنبي دائم مئات السنين، وزرع في قلوبهم معني العدالة والوحدة والكرامة... إلا أن تجاهل والده "عبد الناصر حسين" وانضواء طيفه خلف الكواليس كان بمثابة المؤلف الذي يزرع فكرة العمل المسرحي دون الظهور على خشبته .

هذا هو حال عبد الناصر حسين، الذي ولد عام 1888 في قرية مر مركز أبنوب بصعيد مصر من أسرة من الفلاحين، ولكنه حصل على قدر من التعليم سمح له أن يلتحق بوظيفة بمصلحة البريد بالإسكندرية، وكان راتبه يكفي بصعوبة لسداد ضروريات الحياة .... فقد تلقي تعليمه الأولي بحفظ القرآن الكريم بكتاب القرية، وما لبث أن التحق بالمدرسة الابتدائية، ثم التحق في العام التالي وبعد وفاة والدته بالمدرسة الأمريكية التبشيرية في أسيوط، وكان يسافر يومياً من قرية بني مر إلى المدرسة بأسيوط ، وساعده بالمدرسة القس الأمريكي Chaplain Blyth في تقوية لغته الإنجليزية... وفي أول أكتوبر 1907 انتقل إلى مدرسة الأقباط الكاثوليك بأسيوط،، بينما كان يعمل في إجازة الصيف حتى يستطيع أن يوفر نفقاته أثناء الدارسة... وفي عام 1908 حصل على الشهادة الابتدائية، ثم سافر مع خاله محمد عثمان إلى الإسكندرية والتحق بالعمل بمصلحة البريد.

وفي 15 فبراير 1917 تزوج عبد الناصر حسين من السيدة فهيمة محمد حماد ابنه تاجر الفحم المعروف بالإسكندرية، التي توفيت في 21 إبريل عام 1926 تاركة لزوجها أربعة أبناء أكبرهم جمال، وكان عنده ثمان سنوات ثم عز العرب والليثى، وأصغرهم شوقي الذي كان عمره يوماً واحداً فقط ... وبعد سبع سنوات، وفى 3 مايو 1933 تزوج للمرة الثانية من السيدة عنايات مصطفي صقر، من مدينة السويس ورزق منها بستة أبناء هم مصطفى وحسين ورفيق وعادل وطارق وعايدة.

ومنذ التحاق عبد الناصر حسين بالعمل بمصلحة البريد، والتي كانت بمثابة جزء من الاحتلال الكبير لشعب مصر، فكانت وقتئذ تحت السيطرة الأجنبية الكاملة، حيث مديرها بورتون باشا (16سبتمبر 1907–15 نوفمبر 1923)، ومعظم العاملين بها من جنسيات أجنبية بسبب وجود الاحتلال البريطاني من جهة، والارتباط الوثيق لأعمال البريد بالبلدان الأوروبية، وكان مقر المصلحة الرئيسي بمدينة الإسكندرية قبل أن تنتقل للمقر الكائن بميدان العتبة بالقاهرة عام 1931... وبطبيعة الحال كان عبد الناصر حسين مؤهلا تأهيلا علمياً ولغوياً يسمح له بالتعامل مع تلك الإدارة الأجنبية، فقد كان يجيد اللغة الإنجليزية إجادة تامة، وبعض من اللغات الأخرى كالفرنسية والإيطالية... كما أن ثقة تلك الإدارة بامتيازه وتفوقه جعلته محل ثقة ليكون وكيلاً لمكتب بريد باكوس لفترة طويلة... حيث كانت منطقة باكوس وهي الواقعة بمحطة الرمل بمدينة الإسكندرية والتي تعرف الآن بالصين الشعبية لكثافة سكانها، تقع بها عدة أسواق شهيرة لكافة المنتجات والمصنوعات والحاصلات الزراعية ومحلات الملابس والأحذية والأدوات الكهربائية وتجمعات الصاغة من بائعي الذهب والحلي... ومع تزايد العمران بالمنطقة مع بدايات القرن العشرين ورغبة في دعم العمران في تلك المناطق الناهضة قامت الحكومة المصرية بإمداد المنطقة بالعديد من الخدمات الحديثة في ذلك الوقت كمكتب للبريد ومكتب للتلغراف وغيرها، وانتشر الأجانب بالمنطقة، وبخاصة من أبناء الطائفة الكاثوليكية للاعتقاد بأن ذلك نتيجة لكون "خليل باغوص" الذي سميت على أسمه المنطقة "باكوس" ينتمي لذات الطائفة الكاثوليكية، فانتشرت المباني والخدمات الخاصة بتلك الجالية كالأديرة والكنائس والمدارس الكاثوليكية، ومازال بعضها قائم حتى الآن.

وكان عبد الناصر حسين كواحد من أبناء الشعب المصري له ثقافته المعرفية وتجاربه اليومية مع كل هؤلاء الأجانب من خلال رئاسته الأجنبية بمصلحة البريد والمتعاملين معه من خلال مكتب البريد بمنطقة باكوس بكثرة سكانها من الأجانب قد زرعت فيه آمال كبيرة وتطلعاً في استقلال هذا الوطن، كان يحلم باليوم الذي يذهب فيه الاحتلال، يحلم بأن يري مديره ورؤسائه بمصلحة البريد مصريون مخلصون، بينما لم تتجاوز بالطبع أحلامه بأن يري أبنه رئيساُ لتلك البلد العريق... وبكل أفكاره وتجاربه وثقافته المعرفية عن الحرية والعدالة والتي زرعت في نبتته الأولي أبنه الأكبر جمال ليصبح هذا الزعيم، ورغم كل ما صادفه من مشاكل بسبب وفاة زوجته وتركها له أربعة أبناء أصغرهم عمره يوماً واحداً وأكبرهم ثمانية سنوات، وانتقاله للعمل بعدة مكاتب بريد بمحافظتي الشرقية (الخطاطبة) والقاهرة (الخرنفش)، إلا أنه كان حريصاً كل الحرص على تعليمه أبنه ، حيث ألحق أبنه جمال بروضة الأطفال بمحرم بك بالإسكندرية، ثم ألحقه بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة في عامي 1924،1923 ثم انتقل للأقامة مع عمه خليل حسين بحي الجمالية بالقاهرة وألتحق بمدرسة النحاسين، وبعد أن أتم السنة الثالثة بمدرسة النحاسين أرسله والده في صيف 1928 عند جده لوالدته فقضي السنة الرابعة بمدرسة العطارين بالإسكندرية ... ثم ألتحق في عام 1929 بالقسم الداخلي بمدرسة حلوان الثانوية وبعد عام أنتقل مرة أخري إلى مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية، حتى حصل على شهادة الثانوية من مدرسة النهضة المصرية بالقاهرة عام 1937... كل ذلك حرصاً من والده على قيام جمال بمواصلة دراسته وتعليمه مجنباً إياه التركة الثقيلة التي ورثها بعد وفاة أمه، وانتقاله المستمر بين المحافظات لمواصلة عمله الشاق.

فعبد الناصر حسين ككل أب يتمني لأبنه أن يكون في أعلي المراتب، وعمل لذلك من نشأته الأولي، فعلي الرغم من قلة ذات اليد وراتبه الذي يكاد يسد الحاجات الضرورية لأبنائه، أصر على أن يلتحق أبنه بكلية الحقوق، وهي الكلية التي يتخرج منها القادة والزعماء، بعدما فشل في الالتحاق بالكلية الحربية عام 1937، وكان يمده بالعديد من الكتب التي يقتنيها خلال مراحل تعليمه المختلفة، والتي حرص جمال على مطالعتها وقراءتها، كتب عن الثورة الفرنسية وجان جاك روسو وفولتير، ونابليون والأسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وغاندي ومصطفي كمال أتاتورك، ورواية البؤساء لفيكتور هيوجو، وقصة مدنتين لشارلز ديكنز، وكان جمال معجباً بأشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، كما قرأ روايات ومسرحيات توفيق الحكيم خاصة راوية عــودة الروح، التي تهدف في معنــاها إلى ضرورة ظهور زعيم للمصريين يوحد صفـوفهم ويدفعهم للنضـال في سبيل الحرية، كل تلك الكتب كان لها تأثير كبير في بلـورة أفكاره الأسـاسية وشخصيته السـياسية، وبنفس ذات المعني ذكر الزعيم الراحل في حديثه للصحفي ديفيد موجان بصحيفة الصنداي تايمز"إنني الأبن الأكبر لأسرة مصرية من الطبقة المتوسطة الصغيرة، وكان أبي موظفاً صغيراً يعمل وكيلاً للبوسطة، يبلغ مرتبه الشهري نحو عشرين جنيهاً، وهو مرتب يكفي بصعوبة لسد ضرورات الحياة، وكنا أسرة سعيدة يحكمها أبي... وكان أبي قلقاً بسبب آرائي السياسية حتى في أيام التلمذة، فقد كان عنده مخاوف من أن يحل بي ما حل بعمي، حيث تم اعتقاله أثناء الحرب العالمية الأولي بتهمة الإثارة السياسية، وهي مخاوف طبيعية، فقد كان أمله أن نحيا جميعاً حياة آمنة بعيدة عن المزعجات".

كما أن ثمة عــلاقة وطـــيدة ارتــبط بها جمال عبد الناصر بوالـده، ليست عــلاقة الأبن بالأب فقط ، بل عــلاقة من نـوع خـاص أشبة ما تكــون بالصــداقة ، مشاركة في الآراء والأفــكار، مبــادئ واحــدة ثابــتة وتتــوق للحــرية والعــدالة، الحرص على الترابــط الأسـري، نجــدها بمجموعة نادرة من الخطــابات المتبــادلة فيما بينهما بلغـت ثلاثة وثلاثون خطــاباً خـلال فترة وجــيزة جــدا من 10 يناير 1944 حتى 4 أكتوبر 1944، هذا الاتصال المتدفق جعل من جمال على دراية واسعة بالحياة العامة، حتى أثناء تواجده في حرب فلسطين.
.
ورغم مرور نحو تسعون عاماً على مولد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، واختلاف الآراء السياسية حوله وعن فترة حكمه، إلا أنه مازال الكثيرين يتذكره، حتى الذين لم يعاصروا فترة حكمه، فمن الملفت للنظر أنه مازال عندما تحدث مسيرات شعبية أو مظاهرات أو اعتصامات في معظم البلدان العربية أو للجاليات العربية بالخارج نجد من يرفع صوراً وشعارات منسوبة لهذا الزعيم، خاصة إذا ما تعلق الأمر بقضايا قومية تهم العرب أو تتعلق بالاحتجاج على غلاء الأسعار أو المطالبة برفع وتحسين الأجور على اختلاف أوطانهم، كما نجد كثيرين يحتفظون بصورته تحت زجاج مكاتبهم أو بمحلاتهم أوداخل منازلهم... بيد أن وزارة الثقافة عندما حرصت على تحويل منزل والده الكائن بشارع الدكتور القنواتي بحي باكوس بالإسكندرية لمتحف يضم مقتنيات الأسرة، يضم عددا من قطع الأثاث وساعة حائط وسرير حديدي ومرآة كبيرة وطبلية خشبية ومكتب متوسط الحجم، وفرن فلاحي في الفناء الخلفي، لم تشر إلى صاحبه... ويعاني هذا المتحف الآن من حالة إهمال وإغلاق مستمر، ولم يزره أحد منذ عدة سنوات ..

وهكذا ظل "عبد الناصر حسين" البوسطجي منسياً ، لا ذكر له ولا لفضله في تربية أبنه وتعليمه وغرس فيه روح العزة والكرامة حتى صار أول زعيماً مصرياً يحكم مصر منذ أفول شمس الفراعنة... منسياً ولو كان أبنه زعيماً يعد من أبرز زعماء العالم خلال هذا القرن، منسياً حتى بالإشارة إليه بترميم منزله وصيانته كمتحف .. منسياً قديماً وحديثاً، فلم يتذكره الناس يوماً، ولم يتذكره زملائه بالبريد المصري ولو بوضع صورته على طابع بريد تكريماً لذكراه وتخليداً لتضحيات هذا الرجل ...
.
وللحديث بقية ...

ليست هناك تعليقات: