الأربعاء، 23 أبريل 2008

البريد في العصر النبوي ..



فسر الأمام الرازي في مختار الصحاح معني البريد فقال "البريد الشئ المرتب أو الثابت، يقال حمل فلان على البريد"، وذكر في القاموس المحيط بأنه الشئ المرتب أو الرسول، وأطلق كذلك على المسافة بين سكنتين وهي أربعة فراسخ أو أثني عشر ميلاً، وأضاف العلامة الكتاني بالتراتيب الإدارية بأن العرب أطلقوه على المسافة التي بين محطة وأخري من محطات البريد، ثم أطلق على حامل الرسائل، وتوسعوا فيه الآن فأطلقوه على أكياس البريد ..
.
وقد ذكر المقريزي في الخطط أن كلمة بريد أصلها فارسي من "بريد ذنب" لأن الملك "دارا" هو أول من ابتكر نظاماً للبريد، واقام له دواباً محذوفة الأذناب والذيول لتميزها عن غيرها من الدواب الأخري، ثم عربت وحذف العرب نصفها الأخير واقتصرت على كلمة "بريد" .. ومنها قول امرئ القيس:
على كل مقصوص الذنابي معاود .. .. بريد السري بالليل من خيل بربرا
.
وقد كان البريد معروفاً عند العرب في الجاهلية، حيث استعملوا الخيل والبغال في نقل بريدهم، فيورد آدم ميتز في كتابه تاريخ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري مانصه "إن الروم كانوا يستعملون الخيل والبغال في حمل البريد، وكذلك كان الحال عند ملوك العرب في الجاهلية" وكان يستخدم في العادة لنقل بريد الدولة والتجسس على أعمال الولاة ونقل الأخبار للملوك والأمراء.
.
وعلى الرغم من أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أنشأ الدواوين ومنها ديوان البريد، وأقام لها دوراً بمختلف الولايات، كدار البريد بالكوفة التي ورد ذكرها بصحيح الأمام البخاري بأن أبا موسي الأشعري أمير الكوفة صلي بتلك الدار، وكان أبو موسي أميرا على الكوفة في زمن عمر وعثمان... إلا أن كتب السنة والسيرة تخبرنا كذلك بأهتمام النبي صلي الله عليه وسلم بأمور البريد واختيار مسؤوليه وكتابه ووسائل نقله آخذاً بالصفات الشخصية والخلقية لهذه المهمة.. حيث اختار عبد الله بن أبي بكر لهذه المهمة وآخرين، ذلك أن مهمة البريد كانت آنذاك تعني حمل لرسالة الإسلام للشعوب ونقل الأخبار إلى مركز الدعوة في المدينة، وهو ما سوف نستعرض بعض نماذجه :

رسائل الرسول صلي الله عليه وسلم للملوك والأمراء العرب

من أشهر البُرُد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تلكم الرسائل التي بعث بها إلى الأباطرة والأكاسرة والملوك، الذين كانوا يعتلون عروش الحكم في الدول المحيطة بالجزيرة، داعياً إياهم للدخول في دين الله الحنيف، كما لا يمكن إغفال الرسائل والرسل التي بعث بها صلى الله عليه وسلم إلى القبائل في الجزيرة العربية حاثاً إياها على اعتناق الإسلام، إذاً يمكن القول بأن عهد الرسول الأمين شهد استخدام البريد الداخلي والبريد الخارجي، فقد ذكر في صحيح البخاري، أن النبي صلي الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتاب إليه مع دحية بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري ليدفعه إلى هرقل قيصر الروم، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسري ملك فارس، وكذلك نجد في سيرة ابن هشام أنه بعث عمرو بن أمية الصمري إلى نجاشي الحبشة، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وعمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعياذ ابني الجلندي ملكي عمان، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي ملك البحرين (تخريج الدلالات السمعية للأمام التلسماني ، ص 184).
كما ذكر البخاري والترمذي، أنه لما اراد النبي صلي الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم، فقيل له: إنهم لن يقدروا كتابك إذا لم يكن مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضه ونقشه "محمد رسول الله"، وكان لا يستغني عن الختم به على رسائله إلى البلدان وأجوبة العمال وقواد السرايا، فكان بذلك أول من استخدم ختم الكتاب من قريش وأهل الحجاز (التراتيب الإدارية للأمام الكتاني، ص 177).

الاختيارالدقيق للقائمين على البريد والحرص على سلامتهم

فقد كان من صفات رسله صلي الله عليه وسلم أن يكونوا ممن تتوفر فيهم وفور العقل وطلاقة اللسان وقوة الحجة والبيان، ويدعو لحسن اختيار رجل البريد، فقد ورد في فيض القدير شرح الجامع الصغير أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال "إذا أبردتم إلي بريداً فاجعلوه حسن الوجه، حسن الاسم" أي إذا ارسلتم اليّ رسولاً‏ فتخيروا الحسن الشكل والخلق وكذلك الأسم لكي تنجذب اليه القلوب، ونتفائل بحسن صورته واسمه، حيث كان صلي الله عليه وسلم يشتد عليه الأسم القبيح ويكرهه.
وفي سنن أبي داود نجد قوله صلي الله عليه وسلم "إنّي لا أخِيسُ بالعَهد ولا أحْبسُ البُرْد" فالبرد جمع بريد وهو الرسول، أي أنه لا يحبس الرسل الواردين إليه للدلالة على تقدير القائمين على تلك المهنة، وما يتمتعون به من حصانة تمكنهم من تبليغ رسائلهم .

الاستفادة من المسافات البريدية لمعرفة بعض الأحكام الفقهية

حيث استخدمت المسافة البريدية في الاستدلال على كثير من الأحكام الفقهية، ففي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "لا تسافر امرأة بريداً إلا ومعها ذو محرم" وقوله صلي الله عليه وسلم "لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد" حيث استدل بمسافة البريد المحددة بأربعة فراسخ أو أثني عشر ميلاً على النهي عن سفر المرأة دون محرم، وعلى مشروعية القصر في الصلاة للمسافر.
وروي أبو داود في سننه حديث عدي ابن زيد قال "حمي رسول الله صلي الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريداً بريداً، لا يخبط شجره ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل" أي حدد حرم المدينة من صيد واعتداء وخلافه.
وقد عثر مؤخراً بالمملكة العربية السعودية على عدد من الأحجار الميلية المنقوش عليها المسافة بقياس البريد، حيث تشير هذه الأحجار للمسافة البريدية التي توضع على رأس كل محطة بريد وتقسم المسافة بين أول وآخر محطة بأثني عشر ميلاً، والتي استفاد منها الحجاج وغيرهم من المسافرين عبر مئات السنين.
.
كل هذه الشواهد تدل على أن البريد وأن كان لم يستخدم بما هو معروف لدينا الآن، إلا أن الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم، قد عرفه واستخدمه في ألفاظه ومراسلاته لدعوة الملوك وأمراء الجزيرة العربية، واستخدم عماله وكتابه ووسائل نقله، وأهتم بحسن اختيار القائمين عليه وتأمين حياتهم وتقدير دورهم ...
.
وللحديث بقية أن شاء الله ...

هناك تعليق واحد:

محمد علي يقول...

ما شاء الله تبارك الله
هو اقرب للبحث منه للمقاله
مجهود جبار 👏👏👏👏👏